عن آصف بيات وكتابه (ثورة بلا ثوّار)

عبد الرزاق دحنون:

(أثناء الثورة، يتعلم الملايين وعشرات الملايين من الناس في أسبوع واحد أكثر مما تعلموه في عام كامل من الحياة العادية الخاملة)_ لينين

 

يطرح المؤلفون أفكاراً ووجهات نظر في كتب تُنير لنا عتمة الدروب وتُهدينا سواء السبيل حتى لا نمسي كحاطب ليل. وقد تذكّرتُ أثناء مُطالعتي كتاب المفكر الأمريكيّ الإيرانيّ الأصل آصف بيات (ثورة بلا ثوّار_ كي نفهم الربيع العربي) ثلاثة كتب مهمة عن الثورات والثوّار توقفت عندها طويلاً في مسيرة حياتي الفكريّة، وهي: كتاب المفكر الفرنسيّ ريجيس دوبريه (ثورة في الثورة) الذي يوثّق أفكار قادة الثورة الكوبية خاصة وعموم قادة ثورات أمريكا اللاتينية عامة، من فيدل كاسرو وأرنستو شي جيفارا إلى القائد الشيوعي الفنزويلي دوغلاس برافو. ويدخل في جدل عميق مع ثورات أمريكا اللاتينية في ستينيات القرن العشرين، وكان وقع الكتاب عظيماً في عالمنا العربي حين ترجمته دار الآداب في بيروت عاصمة لبنان في سبعينيات القرن العشرين. وكتاب المفكر الباكستاني طارق علي (مآزق لينين) الذي صدر بنسخته الإنكليزية عام 2017 وترجمه أمير ذكي، وصدرت طبعته العربية في القاهرة -مصر- الكتب خان للنشر والتوزيع عام 2018. وأيضاً كتاب ريجيس دوبريه (دفاعاً عن الثورية) محاكمة ريجيس دوبريه مع مقدمة بقلم جان بول سارتر، تعريب نزيه الحكيم، صادر عن منشورات دار الآداب، بيروت، لبنان، في أوائل سبعينيات القرن العشرين.

والملاحظة المهمة التي يمكن أن نلاحظها هنا هي: إن وجهة نظر أصحاب هذه الكتب- والكتب وجهات نظر في العموم- كانت ثاقبة، لأنهم رأوا الحدث بلا حُجب الإيديولوجيا التي تعيق الرؤية، فكانت وجهات نظرهم واضحة وهم الذين رأوا ما لا يراه صاحب العقيدة في هذه الثورات، بمعنى كانوا يحملون على أكتافهم سراجاً يُنير لهم -أو لنا إن شئت ذلك- دروب الثورات التي تحدثوا عنها. ويؤكد المفكر العراقي الماركسي، ابن محلّة (كرادة مريم) في بغداد، هادي العلوي في هذا المقام: (العقيدة هي الرقيب الداخلي الذي لا يقل سوءاً عن الرقيب الرسمي. والعقيدة هي المسؤولة عن تكوين الوجدان القمعي للأفراد ومصادرة حريّة الضمير والوجدان. وهي وإن كانت مفيدة لتحريك الجمهور في منعطف تاريخيّ معين، يجب أن تبقى في منأى عن النضال اليوميّ، لئلا تكون كما يقول الإمام أبو حامد الغزالي حجاباً يمنع من النظر إلى حقائق الأشياء).

 

عن المؤلف:

آصف بيات، مؤلف العديد من الكتب، ويعمل أستاذاً جامعياً في علم الاجتماع ودراسات الشرق الأوسط. تدور أبحاثه حول موضوعات متنوعة؛ من بينها الحركات الاجتماعية والتغيير الاجتماعي، الدين والمجتمع، الإسلام والعالم المعاصر، والمجال الحضري والسياسة. من كُتبه المُترجمة إلى العربية: (الحياة سياسة – كيف يُغيّر بسطاء الناس الشرق الأوسط) ترجمه إلى العربية أحمد زايد، من إصدار المركز القومي للترجمة مصر عام 2014، وكتاب (ما بعد الإسلاموية- الأوجه المتغيّرة للإسلام السياسي) ترجمه محمد العربي، صادر عن جداول للنشر والترجمة والتوزيع عام 2016. وأخيراً كتابه هذا الذي بين يدينا (ثورة بلا ثوّار- كي نفهم الربيع العربي) صادر عن مركز دراسات الوحدة العربية، ترجمة فكتور سحّاب في 350 صفحة، الطبعة الأولى، بيروت، نيسان (أبريل) 2022.

 

فصول الكتاب

أحد عشر فصلاً يطرح فيها آصف بيات رؤيته، أو قُل وجهة نظره، في أسباب انتفاضات أو احتجاجات أو ثورات الربيع العربي عام 2011. جاءت عناوين فصول الكتاب على الشكل الآتي: ثورات الزمن الخاطئ، ماركس في الثورة الإسلامية، الثورة في الحياة اليومية، ليس لاهوت تحرير، مدن المعارضة، ساحات وميادين متضادّة، ربيع المفاجأة، نصف ثورة ليست ثورة، النبض الراديكالي الاجتماعي، ألم الانتقال، الثورة والأمل. وبطبيعة الحال أضاف المؤلف إلى كلّ فصل من فصول كتابه عناوين فرعيّة أو أبواباً فتحها بعناوين فرعيّة، ليسهّل على القارئ التنقّل بين فقرات الكتاب بسهولة ويسر.

يقول المؤلف في مقدمة الكتاب: (الواقع أن تفكيري في الثورة وتجاربي معها، يعود إلى زمن الثورة الإيرانيّة في عام 1979، التي كُنت فيها مُراقباً مُشاركاً. وقد أعدتُ مُراجعة دراساتي السابقة في شأن الثورة الإيرانيّة، لأجل هذا الكتاب، من أجل المُقارنة. لكن الجزء الأهم من جهد التفكير والبحث والكتابة، الذي استند إليه هذا الكتاب، برز بمجرّد اندلاع الاحتجاجات في سيدي بوزيد، التونسيّة، وما تلاه من تطوّرات فاجأت العالم. ومع الاحتجاجات التي توالت في مصر وليبيا واليمن وسورية والبحرين، انغمست انغماساً أعمق في محاولات فهم ما الذي جرى بهذه السرعة).

ثمَّ يُتابع القول: (كنتُ مُدركاً للتحدّيات التي يواجهها المرء عند دراسة الثورات في أثناء حدوثها. فكيف يمكن أن يقوم الباحث بعمله في الأوقات الثوريّة المضطربة، الزاخرة بالنزاع والتضحيات والمؤامرات والانفعالات، تلك الأوقات التي تكون فيها حياة الناس، وحرّيّتهم، ورفاههم المادي في خطر؟ كيف يمكننا أن نراقب الأحداث ونفهمها، وهي ما تزال جارية؟ ما العمل عندما تكون عمليّة المراقبة نفسها، من حيث أثَرُها، تدخّلاً في الأحداث؟  وقبل كلّ شيء، كيف يتعيّن على المرء أن يتحرّك بين موقفِ مَن يريد أن يرى نجاح الانتفاضة، ومَن يريد مع ذلك أن يحتفظ برزانة روح النقد الأكاديميّة البحثيّة، والنزاهة والصدق في الأحكام؟ إنني آمل أن يكون هذا النص قد أخذ تلك الهموم في الحسبان، ونجح في تجنّب مزالقها المحتملة).

 

لو استعرضنا عناوين فصول الكتاب لوجدنا أن المؤلف يُسلط الضوء- وللضوء في هذا المقال شأن مهم- على طيف واسع من علامات الثورات والانتفاضات- نجاحها أو فشلها- في الشرق الأوسط والعالم، وهو يُؤكد في بداية الفصل الأول الذي جاء تحت عنوان: ثورات الزمن الخاطئ: (تسنّى لي أن أُراقب حدثين ثوريّين تفصل بينهما ثلاثة عقود. ففي أواخر السبعينيّات من القرن العشرين في إيران، انخرطتُ وأنا ناشط شاب، في ثورة، كانت فاتحة فصلٍ جديد في السياسة العالمية. إنني أشير هنا إلى الثورة الإيرانيّة في عام 1979، التي بدأت تقريباً فيما كان الساندينيّون يطيحون بحكم الدكتاتور أناستاسيو سوموزا في نيكاراغوا، وفيما كانت حركة الجوهرة الجديدة في غرانادا التي قادها اليساري موريس بيشوب تنهي حكم إريك غيري الأمريكي الميل. قُبيل ذلك كانت انتفاضة اشتراكيّة تؤسّس في اليمن في السبعينيّات الجمهوريّة الشعبيّة الديمقراطيّة، بينما كانت جبهة تحرير ماركسيّة – لينينيّة تسعى لقلب الحكم في مشيخة عُمان المجاورة. ومع اندلاع هذه الثورات في وسط أجواء الحرب الباردة، فإنها استحثّت هبّة راديكاليّة ديمقراطيّة تُنادي بالعدالة الاجتماعيّة، وتُناهض الإمبرياليّة والرأسماليّة. وقد تابعتُ بشغف تلك الأحداث، وكان بي فضولٌ حيال السياسات الثوريّة، وحماسةٌ لاحتمالات مستقبل أفضل لهذه الشعوب التي قاست حكم قمع استبدادياً طويل الأمد، ولو أنني أُثبطْتُ بما نتج منها في الغالب من حكم قمعي).

 

حوار مع غسّان غنّوم

وما يقوله آصف بيات هنا يُذكّرني بحوار طويل جرى أثناء ثورات الربيع العربي مع صديقي المُترجم غسّان غنّوم، السوري الكندي المسيحي، الذي كان في السبعين من عمره، يتحدث الفرنسية والبلغارية والإنكليزية بطلاقة، تعرَّفت إليه قُبيل ثورات الربيع العربي بسنتين، فكان يجلس في مكتبتي قرب الكنيسة في زقاق المسيحيين في مدينة إدلب في الشمال الغربي من سورية، واختلفنا اختلافاً واسعاً حول مفهوم الثورات، كان مع الانتقال السلميّ من مرحلة إلى مرحلة ولا يؤيد العنف الثوري على طريقة حرب العصابات، كما فعل الثائر الأرجنتيني أرنستو شي جيفارا أو بأشكال العنف الثوري الأخرى المتعددة، ولا حتى طريقة وديع حداد في الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين أيام خطف الطائرات المدنيّة في بدايات سبعينيات القرن العشرين للفت نظر العالم إلى القضية الفلسطينيّة. وقد ترجم لي نصّاً عن الفرنسيّة للمفكر والكاتب الفرنسيّ ريجيس دوبريه يقول فيه: (إن إحدى مفارقات الثورات أنها تؤدي إلى إبطاء سير الأشياء، بعد تسارع كبير في البداية، قبل أن يتحوّل لاحقاً إلى منظومة مكابح ثقيلة. هناك في الثورات مناسبات كثيرة للفرح والبهجة، ولكن أيضاً للحزن والعزاء، وعلى المدى الطويل تتحول البهجة إلى مرارة، وأحياناً كثيرة إلى كوابيس. سبق أن كتب فكتور هوغو عن ذلك، فالانتفاضة الباريسية الكبرى حملت إلى السلطة، وهذه مفارقة جديدة، نابليون الثالث، وهو إمبراطوريّ جداً، وأحمق بالمناسبة).

يؤكد ريجيس دوبريه أن البؤس يقود الشعوب إلى الثورات، والثورة تعيد الشعب إلى البؤس، هذا ما قاله فكتور هوغو الذي يستشهد به ريجيس دوبريه. إنها حلقة تراجيدية كوميدية مستمرة. الثورات التكنولوجيّة فقط، تشذّ عن هذه القاعدة، لأن لا عودة فيها البتة إلى الوراء. لن نعود إلى الشمعة بعد أن اخترعنا الكهرباء، ولا إلى السفن الشراعيّة بعد أن ابتكرنا المحرّكات. الإنترنت غيّر وجه العالم. هنا تقبع محرّكات التاريخ الحقيقيّة الضامنة الوحيدة لتقدم لا رجعة فيه إلى الوراء، سواء كان جيداً أو سيئاً.

وتراني أتفق معه في الرأي لأن الثورات مثل الكهرباء تُنير لنا الوجود، فينكشف حالنا وتظهر عيوبنا كلّها دفعة واحدة، وهذه مفارقة مذهلة في دلالتها. وهذا بالضبط ما حدث في ثورات الربيع العربي، لقد عرّت واقعنا، وانكشفت أحوالنا، فأصبحنا عراةً بحادث إحراق (محمد البو عزيزي) نفسه في مدينة سيدي بو زيد في 16 كانون الأول (ديسمبر) 2010 احتجاجاً على مصادرة الشرطة التونسيّة عربة خضار كان يعيش محمد البو عزيزي مع أسرته من دخلها القليل.

 

هل للضوء الكاشف محاسنُ ومساوئ أو معايبُ ونقائص؟

آصف بيات في كتابه سلّط الأضواء على جوانب وزوايا معتمة في ربيع الثورات العربية، فانكشف له ما كان مخفيّاً ورأى أن: (سرعة ثورات الربيع العربي وانتشارها وزخمها، لا مثيل لها، إلا أن افتقارها إلى الإيديولوجيا وميوعة تنسيقها وغياب أي قيادة جامعة أو مفاهيم فكريّة لديها، أمورٌ لم يسبق لها مثيل تقريباً. ولكن الأشدّ إدهاشاً هو افتقارها إلى أيّ نوع من النزعة الجذريّة التي وسمت الثورات السابقة، وأن مُثُل الديمقراطيّة العميقة والمساواة وعلاقات التملّك المنصفة والعدالة الاجتماعيّة، بهتت أو كانت موضع خُطب، أكثر مما كان يُحفّزها اهتمامٌ صادق يرتكز على رؤية استراتيجيّة، أو برامج ملموسة. في الحقيقة، يبقى السؤال هو إذا ما كان الذي نجم عن الربيع العربي هو ثورات فعلاً، بالمعنى الذي كان للثورات الرديفة في القرن العشرين).

 

كلمة (ربيع).. معنىً ومبنىً

على كل حال، لو عدنا إلى ما كتبه آصف بيات في الفصل الرابع عشر من كتاب (الحياة سياسة – كيف يُغيّر بسطاء الناس الشرق الأوسط) وكان الربيع العربي طازجاً ما يزال. وهنا جملة اعتراضية، فكلمة ربيع لا تعني فصل الربيع بجماله وحلاوة طقسه على حدّ تعبير الكاتب والباحث المصري مصطفى الفقي: (ولكنها تتجاوز ذلك إلى التأكيد على أن الحدث الذي يحمل هذا الاسم يمثل أهمية كبرى تكاد تكون بمكانة القلب من الجسد. ولذلك عندما زحف تعبير الربيع العربي على أحداث عام 2011 وما تلاها، أدركنا على التو أن فصلاً جديداً في تاريخ المنطقة بدأ يملي سطوره على الساحة العربية وامتداداتها المحلية بصورة غير مسبوقة).

بدأ الفصل الرابع عشر من كتاب آصف بيات من الصفحة 499 واستمرّ حتى الصفحة 531، وهو كتاب ضخم كما ترى، حشد فيه المؤلف عدداً من الدراسات البحثيّة في العلوم الاجتماعيّة، حلّل من خلالها بنية المجتمعات في الشرق الأوسط، فقد (استطاعت الدول العربية أن تُنتج، عبر الفاعلين الغاضبين، والتفكير السياسي الجديد، والقنوات الجديدة للاتصال والتعبئة، أن تُنتج مجالاً عاماً جديداً- يتسم بتوجه ما بعد قومي، وما بعد إيديولوجي، وما بعد إسلاموي. ويقف هذه التفكير الجديد وراء الثورات العربيّة. وقد انتشرت رموز الثورة ومزاجها عبر الوطن العربي مثل الفيضان الهادر، وذلك عبر الأحاديث اليومية، والثقافة السياسية، وعبر اتصالات الناشطين العابرة للحدود- وكان لسان حالهم جميعاً يقول: إذا كان التونسيون قد فعلوها، فلماذا لا نفعلها نحن؟!).

 

خاتمة

هل تستحقّ الثورات هذا القدر من الحبّ والجهد والأسى والتضحية، عندما لا يكون ثمّة يقين بأنها ستأتي بنظام اجتماعيّ عادل وحرّ؟ كثر هذا التساؤل بعد انتفاضات أو ثورات الربيع العربي وسيرها في دروب عسيرة وعرة شائكة. وهل من المنطقي أن ينخرط المرء في صنع الثورات التي قد ينتهي بها الأمر إلى اليأس؟ ها أنا أحد المواطنين العرب من مدينة إدلب في الشمال السوري، حيث أجبرتنا تداعيات ثورات الربيع العربي على الرحيل عن ديارنا، وأن لنعيش هنا في المرتفعات الجبليّة في مدينة إزمير على شاطئ بحر إيجة حياة جديدة لم تكن من خطط حياتنا بالمرّة. نعم، تلك أسئلة منطقيّة، ولكن كم هي أسئلة معقولة ومشروعة؟

يقول آصف بيات في ختام كتابه: (يُذكّرنا القائد الثوري ليون تروتسكي بأن الناس ما عادوا يتلهّفون للقيام بثورة، كما يتلهّفون للحرب. فبينما يؤدي الإكراه في الحرب دوراً حاسماً، فليس ثمّة إكراهٌ في الثورة، سوى إكراه الظروف. فالثورة لا تحدث إلا حين لا يكون ثمّة مَخرَجٌ غيرها. بعبارة أخرى، إننا نادراً ما نُقدم على القيام بثورة قاصدين متعمّدين، بل إن الظروف تُهيّئنا وتدفعنا للقيام بها، حين تحدث فعلاً).

يُتابع آصف بيات القول: (إذا كانت هذه الجدليّة الفريدة بديهيّة، فإنه منطقيٌّ عندئذٍ احتضان الثورات وتعميقها. ذلك أن في هذه الأحداث التاريخية أكثر كثيراً من مُجرّد الألم والثمن، والثورات تعني أكثر من مُجرّد تبديل النظام، أو التعديل المؤسّسي، مع أن هذين يبقيان جزءاً لا غنى عنه من الثورة. إنني أفكر بفهم أكثر تعقيداً للثورة، في السياق الذي سمّاه ريموند وليامز: الثورة الطويلة، أي العمليّة الصعبة، بمعنى أنها مركَّبة وذات وجوه متعدّدة؛ فعوامل التغيير الكاملة لا تقتصر فقط على العامل السياسي والعامل الاقتصادي، بل كذلك عوامل التغيّر الاجتماعي والثقافي والإنساني التي تنطوي على أعمق ما في بُنَى العلاقات والمشاعر. وفي النتيجة، بدلاً من أن ننظر في النتائج السريعة، أو نقلق في شأن مجموعة المطالب، علينا أن ننظر إلى الانتفاضات العربيّة على أنها ثورات طويلة قد تُثمر في عشر سنين أو عشرين سنة، بتأسيس أساليب جديدة لفعل الأشياء، وطريقة مختلفة في التفكير بالسلطة وحقوق المواطن. ليست هذه نظرة غير معقولة. ففي الأمر ما هو أهمّ من مُجرّد الفهم الدلالي عن طريق تعريف الثورة، ذلك أن في صلب الموضوع، المشكلات العويصة المتعلّقة بهياكل السلطة والمصالح الحصينة. وكيفما خلص المرء إلى تعريف العمليّة، على أنها ثورة طويلة، أو ثورة تبدأ بتحويل سريع وجذريّ للدولة، فإن المسألة الأساسيّة هي كيف يُضمن الانتقال الجوهري من حكم الأقليّة والنظام الاستبدادي القديم، من أجل المباشرة في تغيير ديمقراطي حقيقي في اتجاه المساواة، مع تجنّب الإكراه العنيف والقمع؛ وكيف يُضمن أن النبضات الجذريّة في اتجاه المساواة في المجتمع، ومُثُل الانتماء والإنصاف والعدل تبقى في صميم التفكير الجديد. إن هذه مسائل أساسية ومثيرة، لا تزال تنتظر تحديد أجوبة معقولة. لكن ثمّة أمراً مؤكداً: إن المسيرة من القديم الاستبدادي إلى الجديد المحَرِّر لن تجري من دون صراع مرير والتزام شعبيّ مثابر، في المجالين العام والخاص، في التفكير وفي الممارسة، فرديّاً وجماعيّاً. فالثورة تلتزم إعادة تفكير جوهريّة في السلطة، وإعادة تصوّر جذريّة لنظامنا الاجتماعي، والسعي إلى مجتمع تقوده مُثُل المشاركة والرعاية وروح المساواة والديمقراطية الجامعة. وفي الحقيقة، يمكن أن يكون على الثورة الطويلة أن تبدأ حين تنتهي الثورة القصيرة).

 

العدد 1104 - 24/4/2024