سنوات ضوئية

د. أحمد ديركي:

عند قياس المسافة الواقعة بين أيّ نقطتين، لا بدّ من استخدام وحدة قياس لمعرفة المسافة الفاصلة بينهما. ما دام هناك نقطتان، يمكن أن يمثلا جسمين متباعدين، فهذا يعني أن هناك غاية لقياس المسافة الفاصلة بينهما. قد تكون من أجل تقريب النقطتين، أو إبعادهما، أو دمجهما، أو أي غرض آخر. فالقياس ليس مسألة اعتباطية لا غاية لها. ومهما كان الهدف الكامن، أو الظاهر بين النقطتين، فبالضرورة يستلزم حركة ما لتحقيق هذا الغاية المنشودة من القياس. وما دام الحديث عن غاية ما لقطع مسافة ما فهذا بالضرورة، أيضاً، يعني استغراق زمن معين لتحقيق الغاية المنشودة.

على الأرض تختلف وحدات القياس، وتحديداً المتعلقة بالمسافة، تبعاً للمسافة بين النقطتين. فكلما صغرت المسافة صغرت وحدة القياس، من مليمتر وما دون، وكلما تباعدت المسافة بين النقطتين كبرت وحدة القياس، من السنتيمتر وصولاً إلى الكيلومتر. ويمكن تحويل كل وحدة قياس إلى أخرى، على سبيل المثال تحويل السنتيمتر إلى كيلومتر والعكس صحيح. وتتم هذه العملية لتوحيد وحدة القياس المسافية. وكذلك الأمر بالنسبة للزمن إذ يمكن قياسه بالثانية أو الدقيقة أو الساعة. والحركة تربط ما بين المسافة والزمن، فتعبر عن سرعة عملية الانتقال من النقطة الأولى إلى الثانية، والسرعة تهدف إلى تحقيق الغاية المراد تحقيقها من الحركة.

وبهذا لا يمكن فصل أيٍّ من هذه الأمور الثلاثة: زمن، حركة، مسافة (أو فضاء)، لتحقيق الغاية المنشودة. عندما ازدادت مستويات الوعي البشري وتطورت العلوم لأسباب موضوعية وذاتية، تتعلق بطبيعة نمط الإنتاج القائم، وتحديداً نمط الانتاج الرأسمالي، بدأ الإنسان باكتشاف مسافات أبعد. فقد بدأ بالخروج من حيّز الانحصار بالكرة الأرضية ليصل إلى أبعد منها. هنا لم تعد وحدات قياس المسافات الأرضية تلبي المطلب. فالمسافات المكتشفة أكبر من أن يُعبّر عنها بهذه الوحدات القياسية المعبرة عن المسافات الأرضية. ومع تطور النظريات العلمية ونضوج الظروف، ظهرت نظرية النسبية، العامة والخاصة، التي أتى بها أينشتاين. نظرية ما زالت حتى تاريخه لم تُستكمَل رغم كل ما جلبته للبشرية من مفاهيم جديدة. وواحدة من المفاهيم التي قلبت الفكر البشري رأساً على عقب مسألة الزمن وسرعته، وكذلك سرعة الضوء. فالضوء سرعته ثابتة في الفراغ، وأصبح الضوء وحدة قياس للمسافات مرتبطة بالزمن. وأصبحت السنة الضوئية وحدة قياس معتمدة لقياس المسافات الشاسعة، مثل المسافات الواقعة في الكون. حتى أصبح من الاعتيادي القول إن المسافة بين الكوكب الفلاني والكوكب الآخر تبلغ 10 سنوات ضوئية. أي على الضوء أن يسير بسرعته المعروفة لمدة عشر سنوات ليصل من الكوكب الأول إلى الكوكب الثاني، أو العكس من الثاني إلى الأول.

وقد تبيّن خطأ إطلاقية الزمن، فقد كان يُظن قبل أينشتاين أن الزمن مطلق غير متأثر بأي شيء. وقد أوضح أينشتاين أن الزمن متأثر بالسرعة. لكن ما يهمّنا هو أن الزمن لم يعد مطلقاً. لكن ماذا يعني أن المسافة بين كوكبين تبلغ 10 سنوات ضوئية؟

ما أثبته أينشتاين أن ما من شيء يسير بسرعة أكبر من الضوء. أي هناك مراقب على الكوكب الأول، ولنسمِّه الأرض، شهد انفجاراً على الكوكب الثاني، ولنسمِّه س، والمسافة بين الكوكبين عشر سنوات ضوئية، فهذا يعني أن ما شهده المراقب على الأرض قد حدث منذ عشر سنوات ضوئية مضت. فبالنسبة لمراقب الأرض الحدث وقع في الزمن الحاضر، وبالنسبة لمن يعيش على الكوكب س الحدث هو في الماضي وعمره عشر سنوات ضوئية. فإن أراد مراقب الأرض أن يعزّي من يسكن على الكوكب س، فعليه أن ينتظر عشر سنوات ضوئية لتصل برقية التعزية. وبهذا تكون برقية التعزية قد وصلت بعد عشرين سنة ضوئية من وقوع الحدث.

فإن لم يلحظ مراقب الأرض هذه العملية الحسابية، المعقدة، فقدت برقيته معناها! ويبدو ان هذا ما يحدث حالياً على كوكب الأرض! بشكل مختصر، هناك العديد من المنظرين في عالمنا العربي ينظرون بأمور متعددة تتعلق بشؤون العالم العربي متناسين أن هناك مسافات ضوئية بين ما يقولون وما هو واقع. ومن هذه الأمثلة فمثلاً من ينظّر عن الديمقراطية في العالم العربي، فهو يتناسى أن الديمقراطية، حتى في وجهها الرأسمالي، ليست مجرد الذهاب إلى صندوق الاقتراع والتصويت، بل هي تشكيل نمط فكري متكامل يرتبط بطبيعة نمط الإنتاج القائم في البلد. لذا نرى الكثير والكثير من المنظّرين العرب المتغنّين بفوز فلان بالانتخابات، من دون أن يخبرونا لماذا انتُخب؟ بمعنى وفقاً لأية خلفية فكرية جرى انتخابه. فالمسافات الفاصلة بيننا وبين المفاهيم المستخدمة تبلغ مسافات ضوئية، لذا علينا الحذر عند استخدامها ومعرفة المسافة الفاصلة بيننا وبين المفهوم وتطبيقاته قبل الحديث عنه. فنحن نستهلك المفاهيم الحديثة، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو حتى علمية، من دون أي عملية حسابية لمعرفة المسافة الفاصلة بيننا وبينها.

العدد 1104 - 24/4/2024