أقدارنا.. نصوغها بإرادتنا

إيمان أحمد ونوس:

لا شكّ في أن غالبية البشر يعتقدون أنهم محكومون بقدرٍ مكتوب على الجبين كما يُقال، قدر مرسوم لهم حتى قبل أن ترى أعينهم النور. وكثيرون يعتبرون أن مسيرة حياتهم كلها مرهونة بتلك الأقدار المرسومة لهم، فلا خيار آخر يلوذون به، ويعتقدون أن أيّ أمر يعترضهم مهما كانت قسوته وشدّته ما هو إلاّ قدرٌ محتوم لا مجال للاعتراض عليه، ولا بدّ أن يقبلوا به حتى لو لم يَرُقْ لهم. لعلَّهم مُحقّون بعض الشيء في أنهم محكومون بيوم ميلادهم وجنسهم ونسبهم ودينهم وانتمائهم العرقي والقومي وما إلى ذلك من أمور أخرى مشابهة، لكن المشكلة وربما الوجودية هي الاستسلام الكلي لما يعترضهم في مختلف جوانب حياتهم ومساراتها، وكأنهم فقط مُجرّد دمىً تُحركها أيادٍ خفيّة لا قدرة لهم على مواجهتها وتجاوزها أو تخطّي مشيئتها!

هنا، وإذا ما تأمّلنا مليّاً في واقع مجتمع يؤمن غالبية أفراده بقدرٍ فُرِضَ عليهم لا يُمكنهم الفكاك من شرانقه، مجتمع يتقبّل الواقع بكل ما فيه، ويحيا ليومه المُؤطّر بقدرٍ محتوم على مختلف المستويات، فإننا ولا شكّ سنُدرك بعض أسباب التخلّف والجهل والعبثية التلقائية التي تسود حياتنا أفراداً ومجتمعات. فمثلاً، أولئك الذين يعيشون فقراً مُدقعاً تجدهم مقتنعين بفقرهم على أنه قضاء الله وقدره، فلا يساورهم الشكّ أبداً في أنهم بإمكانهم تخطّي هذا الفقر بالاجتهاد والبحث عن فرص وسبل أخرى تنتشلهم من واقعهم وتأخذهم إلى واقع أفضل لهم ولأبنائهم، يعيشون حياتهم بتلقائية مُدهشة، يتكاثرون بطريقة مُرعبة تؤثّر على مستوى دخل الفرد وبالتالي على مستوى الدخل الوطني، وما هذا إلاّ بالاستسلام لمقولة (بيولد الطفل ورزقته معه)! وليس هذا وحسب، بل تراهم، ورغم الفقر الذي يعيشون، يرفضون تحديد النسل وتنظيمه باعتبار ذلك اعتراضاً على مشيئة الخالق رغم كل ما يجرّه هذا التكاثر من ويلات على صحة المرأة أولاً وقدرتها على القيام بمسؤولياتها المنوطة بها كأمّ وربّة أسرة، إضافة إلى تأثيره الكبير على الوضع المعيشي والصحي والتعليمي لكل أفراد الأسرة، وبالتالي يكون المجتمع أمام نِسبٍ مُرتفعة من الأميّة لعدم الالتزام بالتعليم وخروج الأطفال لسوق العمل في سنٍّ مبكرة لأجل المُساهمة في دخل الأسرة. ويتمُّ كل هذا في ظلّ الاستسلام الطوعي لمشيئة قدريّة غامضة أمام تجاهل كبير لقاعدة: (اعقل وتوكّل).

بالتأكيد لا يقتصر هذا التفكير على الفئات المُهمّشة وغير المتعلمة، بل يشمل كذلك فئات وأفراداً من الجنسين يحوزون تعليماً جيداً، وربما يشغلون مناصب كبيرة، إلاّ أنهم يعزون كل ما يعترضهم أو يُصيبهم إلى القدر المكتوب لهم منذ ولادتهم، دون أدنى محاولة لإعمال العقل والتّمعّن بالأسباب الكامنة وراء معضلات ومشاكل يعيشونها، ومن ثمّ محاولة إيجاد الحلول المطلوبة. وهذا بحدِّ ذاته مشكلة أكبر وأخطر ممّا هو عند الشرائح المذكورة أعلاه، إذ نلمس أن العلم الذي حصّلوه والمكانة التي وصلوها لم تخدش أو تُخلخل استسلامهم واعتقادهم بأهمية القدر وتأثيره على مسار حياتهم، وبالتالي يتمُّ تعزيز واستمرار تخلّف الوعي الفردي والمجتمعي، الوعي الضروري لتجاوز الواقع القاسي الذي يعانيه الجميع من فقر وتخلّف وجهل، بسبب تفشّي الأميّة الأبجدية والمعرفية على حدٍّ سواء.

إن سيادة القدرية المحتومة هذه وسطوتها بين أفراد المجتمع، لاسيما ونحن نعيش الألفية الثالثة، هي أحد أسباب تخلّفنا عن مواكبة مسارات العلم والاكتشافات العلمية المُستمرة التي شكّلت وما زالت تشكّل الدعائم والأُسُس للحضارة الإنسانية التي تُرخي بظلالها وثقلها على مختلف بقاع الأرض، وهذا ما يتركنا حتى اللحظة خارج سياقات تلك الحضارة وإنجازاتها، بل ويُبقينا شعوباً غير فاعلة، بل مستهلكة لجهود الآخرين وإنجازاتهم، وهم يستغلون هذا التخلّف للسيطرة على عقولنا وأنماط تفكيرنا بما ينتجونه ويخدم مصالحهم، والنظر إلينا على أننا أشباه كائنات تقتات على ما يجودون به علينا، ما يعني بقاءنا( أفراداً ومجتمعات ودول) تابعين لمشيئته التي تُشكّلنا كما تريد وترغب.

لا شكّ أننا خُلِقنا في هذه الحياة بمشيئة الخالق، لكن مسار حياتنا وتوجهاتنا منوطٌ بإرادتنا التي يُفترض أن تدفعنا في دروب الحياة كي نكون أُناساً فاعلين ومؤثّرين على المستويين الشخصي والعام، فمشيئة الخلق لا تستدعي بالتأكيد استسلامنا الدائم لما نحن عليه، بل تتطلّب التفكير والاجتهاد والسعي بالاتجاه الأفضل كي نسمو بأنفسنا وبالمجتمع وكي نعيش الحياة التي تليق بنا ككائنات عاقلة ميّزها الخالق بعقل يُفترض أن يجتهد دوماً لنحيا بكرامة وإنسانية راقية.

العدد 1104 - 24/4/2024