حادث استثنائي غير مسبوق

د. صياح فرحان عزام:

صرخة إنسانية نادرة من صحوات الضمير الإنساني وفريدة من نوعها تجسدت في إقدام أحد الطيارين الحربيين الأمريكيين (من مرتبات البحرية الأمريكية) ويدعى آرون بوشنل، على حرق نفسه حتى الموت أمام سفارة الكيان الصهيوني في واشنطن، وهو يردّد عبارات (لن أشارك بعد الآن في حرب الإبادة.. فلسطين حرة.. سأنظم احتجاجاً عنيفاً للغاية الآن، لكن احتجاجي ليس كبيراً بالمقارنة مع ما يعيشه الفلسطينيون على أيدي محتليهم).

بعد الانتهاء من هذه العبارات المؤثرة، أضرم النار في نفسه وهو يصرخ (الحرية لفلسطين)، حتى توقف عن التنفس وفارق الحياة.
في الحقيقة هذا الحادث الاستثنائي هزّ العالم، ولم يجرؤ أحد على وصفه بالانتحار، فهذا الرجل الطيار الأمريكي الأبيض وغير المسلم، وغير العربي، أصبح عبءُ المذابح الصهيونية المدعومة أمريكياً في غزة، ثقيلاً على ضميره، لذا قرّر أن يهب نفسه لتكون وقوداً لإشعال نور يضيء به طريق رفاقه وزملائه وسائر الأمريكيين ليعرفوا ما جنته الإدارة الأمريكية بقيادة الرئيس بايدن على سكان غزة، خاصة منهم الأطفال والنساء والشيوخ، فضلاً عن التدمير الهمجي للبنية التحتية في القطاع، وهدم نحو ثمانين بالمئة من مساكنه، داعياً لعدم قبول شهادة الزور، والمغامرة بالشهادة للحق، وصولاً إلى الاستشهاد من أجل هذا الحق.

وكما هو معلوم، تأتي هذه الحادثة الفريدة وسط احتجاجات جماهيرية متصاعدة في معظم الولايات والمدن الأمريكية والغربية، وتبع الحادثة أيضاً تظاهرة لطيارين عسكريين أمريكيين، تضامناً مع زميلهم بوشنل، ردّدوا أثناء احتشادهم أمام سفارة الاحتلال في واشنطن، هتافات وشعارات وكلمات تخلّد ذكرى زميلهم الطيار، الذي أحرق نفسه حتى الموت، ومما قالوه أيضاً في كلماتهم: (لا للإبادة الجماعية.. ضرورة خروج الولايات المتحدة من المشاركة في حرب الإبادة الجماعية التي ينفذها كيان الاحتلال ضد الفلسطينيين، كما دعوا بصوت عال إلى وقف الدعم العسكري والسياسي الأمريكي للجرائم الصهيونية، والتراجع عن حماية قادة الكيان من المحاسبة والمساءلة).

إن هذا الاحتجاج الصاعق ضد الإبادة الجماعية في غزة له دلالته البالغة، خاصة أنه جاء من ضابط طيار مازال في الخدمة العسكرية، ومن هذه الدلائل:

– هناك موقف تيار لا يستهان به في المؤسسات العسكرية الأمريكية بات يشعر بالعار والخيبة إزاء مشاركة بلادهم للعدو الصهيوني في حربه ضد غزة.

– إن الموت احتراقاً يعدّ احتجاجاً فريداً من نوعه بين صفوف الجيش الأمريكي، فقد جرت العادة أن ينتحر أحدهم بطلق ناري يطلقه على نفسه بعد إطلاق النار على مجموعة من زملائه في أحد المعسكرات أو الثكنات، أما أن يلبس ضابط زيه الرسمي العسكري بلا سلاح، ويسكب على نفسه مادة سريعة الاشتعال، ويحترق في مكان عام، فهذا شيء غير مسبوق!

– قد يكون احتجاج هذا الضابط بهذه الطريقة تعبيراً عن الندم وشعوراً بالذنب الفادح إزاء ما تقوم به القوات الأمريكية التي ينتمي إليها.

ويرى بعض الباحثين ممن كتبوا عن المشهد، أن اختيار الطيار بوشنل هذا الأسلوب في الموت حرقاً، ربما لقناعته بأن أساليب الاحتجاج التقليدية عاجزة عن إيصال رسالة قوية إلى الإدارة الأمريكية.

إن الحادثة تشكل عنواناً بارزاً من عناوين السقوط الأخلاقي الأمريكي والغربي، والذي أصبح يشعر به المواطن الغربي عموماً تجاه حكامه الذين يدعمون المجازر، كما تؤكد وجود موجة من عدم الرضا المتنامية ضد سياساتهم الخبيثة.

 

العدد 1104 - 24/4/2024