الصبر الاستراتيجي.. وللصبر حدود

د. نهلة الخطيب:

لم نعد ندري ونحن في ذروة الهذيان السياسي، وربما الهذيان الوجودي، ما إذا كان مصيرنا مسألة دولية، أم إقليمية، أم كلاهما معاً، فالتداعيات الغامضة لأحداث غزة، والحراك الدولي لتجميد الوضع عند حدود معينة، بعد هستيريا الدم الإسرائيلية، لصياغة شرق أوسط جديد يخدم المصالح الإسرائيلية والأمريكية في المنطقة، يجعل الطريق نحو حرب شاملة يزداد اتساعاً، بعد فشل الجهود الدولية والإقليمية للوصول إلى هدنة، وحل لوقف القتل الجماعي، والموت جوعاً في غزة، فأصبحت الحرب الشاملة مسار إجباري لا مفرّ منه، حتى إذا كانت كل الأطراف لا تريدها، لا رهان على أمريكا ولا على أوربا، فأمريكا التي حشدت أساطيلها منذ اليوم الأول للحرب على غزة، هدفها توسيع الحرب وإشعالها، للحفاظ على أمن إسرائيل، وإعادة رسم خارطتها للمنطقة.

تقارير أمريكية وغربية تتحدث عن احتمالات انتقال الحرب في غزة إلى لبنان، للتخلص من التهديد الوجودي لإسرائيل في الشمال، ما إن تفرغ إسرائيل من القضاء على حماس. وزير الخارجية الإسرائيلي يسرائيل كاتس في رسالة موجهة إلى مجلس الأمن لتهيئة المجتمع الدولي لحرب قادمة في لبنان قال: (إن إسرائيل سوف تفرض الأمن على حدودها الشمالية عسكرياً)، وتستند هذه التقارير على الاستعدادات العسكرية الكبيرة على الحدود اللبنانية الجنوبية، وتفريغ المستوطنات من سكانها (ما يقارب 70 ألف مهجّر إسرائيلي)، إضافة إلى أن حزب الله ربط التفاوض ووقف العمليات العسكرية على الحدود بوقف إطلاق النار في غزة، تعبيراً عن منهج (وحدة الساحات) الذي ينتهجه محور المقاومة، وترفضه إسرائيل وتقابله بفك الارتباط بين الساحات، هذا ما أكده نائب الأمين العام لحزب الله نعيم قاسم، (عندما تتوقف الحرب في غزة تتوقف في لبنان)، ولكن المبعوث الأمريكي آموس هوكشتاين قال مهدّداً: (إن الهدنة في غزة لن تمتد تلقائياً إلى لبنان، والتصعيد أمر خطير، ولا شيء اسمه حرب محدودة)، بعد أن رفض حزب الله اقتراح هوكشتاين بتحريك قواته على بعد عدة كيلومترات من الحدود وإحلال الجيش اللبناني محلّه. مواجهات مفتوحة بين إسرائيل وحزب الله تزداد توتراً، مع تواصل عمليات الاغتيالات والقصف الإسرائيلي على العديد من البلدات اللبنانية الجنوبية، وخروج الأهداف الإسرائيلية من منطقة الجنوب، إلى مناطق بعيدة عن الخط الأزرق بالعمق اللبناني، كما حصل في بعلبك، فهل ينفجر هذا الخط؟؟

مصير لبنان والمنطقة على صفيح ساخن، والنتائج كارثية لمثل هذه الحرب، لبنان الذي وصفه هنري كسنجر بـ(الفائض الجغرافي) الذي يستعمل في تسوية أزمات المنطقة، رأى فيه شارون (الخطأ التاريخي) الذي يجب تصحيحه، مهيأ لتنفيذ المخططات الإسرائيلية، فهو على حافة الانهيار الاقتصادي، والجمود السياسي والفراغ الحكومي المستمر منذ أكثر من عام ونصف، ليعمق التشققات البنيوية القابلة للانفجار، والتي تدركها المقاومة اللبنانية، وتحرص أن لا تنزلق بها، حسن نصر الله اعتبر (أن الساعة لم تدقّ بعد)، وهو يدرك مدى كارثية الوضع الداخلي والخارجي، ما يزال يحافظ على ضبط النفس، وسياسة الصبر الاستراتيجي التي دعا لها آية الله خامنئي، والمحافظة على قواعد الاشتباك على الحدود بينه وبين إسرائيل، (حتى الآن نقاتل بحسابات مضبوطة)، رغم محاولات إسرائيل استدراجه إلى الحرب وكسر هذه القواعد.

ويرى محللون عسكريون أن الجانبين على شفا حرب شاملة مع تزايد الاشتباكات في الأيام الأخيرة، على الرغم من تصريحات رسمية داخلية وخارجية، أن حرباً واسعة ماتزال مستبعدة، مع زعم أمريكي وغربي لتطويق الحرب، منعاً للانزلاق إلى حرب لن تكون لصالحها في الشرق الأوسط، وحرصها على إبقائه هادئاً ومستقراً كمصدر للطاقة، وكمسرح استراتيجي لصراعهم مع القوى العظمى للهيمنة العالمية، وتقليص الحضور الروسي والصيني في المنطقة، من خلال مجموعة من الحروب والأزمات، وهي بدأت فعلاً من خلال زج روسيا في حرب طويلة في الشرق الأوربي (أوكرانيا)، مروراً بالحرب في غزة والبحر الأحمر، وتحييد إيران، والسيطرة على ممرّات الملاحة الدولية، وصولاً إلى الشرق الآسيوي واستفزاز الصين، الخصم الاستراتيجي الأول لأمريكا، لإفشال خططها الاستراتيجية في إطار ممر (الحزام والطريق) الصيني، منطقة الشرق الأوسط تقع في وسط هذه التقاطعات كلها، فكان من الطبيعي أن تكون ساحة للصراع.

إسرائيل تحت ضغوط أزماتها وعجزها وخسارتها في غزة،  تحاول توسيع رقعة الحرب ثأراً لهيبتها، وأي حرب في لبنان لن تكون لأشهر بل لسنوات، فالمقاومة اللبنانية قاتلتها على مدى 18 عاماً، ولم تكن تمتلك آنذاك سوى البنادق والقاذفات الصاروخية، تكبدت فيها إسرائيل خسائر كبيرة بعد أن دمرت الضاحية الجنوبية عام 2006، وحذر نصر الله من قتال بلا حدود وأكثر بمئة مرة  مما شهدته عام 2006 (إذا فعلت إسرائيل)،  واستهداف مرفأ سيقابله مرفأ، ومطار مقابل  مطار، ومبنى سكني مقابل مبنى سكني. الترسانة الصاروخية الهائلة لدى المقاومة اللبنانية زادت كما ونوعاً، ويمكن أن تصل إلى البنية التحتية في الداخل الإسرائيلي، وتجعل المصالح الأمريكية والغربية مهددة في المنطقة، وهي أكبر بخمس مرات من ترسانة المقاومة الفلسطينية، التي حطمت ما تبقى من أسطورة القوة التي لا تقهر، في مقالة ليوفال نوح هراري (مؤرخ إسرائيلي) كتب فيها: (إن النصر ليس لمن يقتل أكثر، أو يدمر المنازل، أو يحتل الأراضي، فكلها انجازات عسكرية وليست أهدافاً سياسية، بل النصر لمن يقترب من تحقيق أهدافه السياسية).

ستكون حرباً شاملة وفتح جبهات متعددة بين الطرفين، بمشاركة محور المقاومة في سوريا والعراق واليمن، ربما تجرّ إيران رغم تبنيها سياسة (الصبر الاستراتيجي)، كما يمكن أن تجر أمريكا حليف إسرائيل، وهذا ما رآه هراري أن اشتعال النار (لا يزال وارداً في أي لحظة)، ودخول حزب الله وقوى أخرى إلى الحرب بصورة أوسع، وتوجيهها مجتمعة ضربة إلى إسرائيل لتكون هذه الضربة بمثابة (طوفان). فالحرب الشاملة ستكون مدمرة على لبنان، ولكنها ستكون مدمرة على إسرائيل، وكما قال نبيه برجي: (ما يحمينا أن مقابل هيروشيما لبنانية.. هيروشيما إسرائيلية).

العدد 1105 - 01/5/2024