من دون (عصا بوتين).. الناتو ليس على ما يرام!

د. صياح فرحان عزام:

لقد أصبح واضحاً أن حلف الناتو ليس قوة جبارة، وأنه رغم تمدده باتجاه دول مجاورة لروسيا وازدياد عدد الدول المنضوية تحت لوائه، يختزن في داخله عوامل التفكك والضعف.. وجاءت تصريحات الرئيس الأمريكي ترامب الأخيرة بأنه إذا عاد إلى البيت الأبيض فإن الولايات المتحدة لن تدافع عن أعضاء الحلف إذا لم يسددوا ما يكفي للدفاع، وأنه سيشجع روسيا على مهاجمة بعضها، جاءت لتثير ثائرة الحلفاء عبر الأطلسي، فقد توالت بيانات الشجب والاستنكار والاستياء بين صفوفهم.. وكأن التهديد دخل حيز التنفيذ، بينما بينت هذه المواقف الأوربية الغاضبة أن الحلف ليس متماسكاً بما فيه الكفاية، مع العلم بأن الحلف لم يخض حرباً بكل دوله، بل كان بمثابة أداة طيّعة وذراعاً لواشنطن استخدمتها في تدخلاتها العسكرية المتعددة منذ حرب الخليج الأولى عام 1991 إلى التدخل في ليبيا، مروراً بقصفه في البوسنة والهرسك ويوغسلافيا وأفغانستان والعراق، بمعنى أن الحلف لم يخض حرباً حقيقية تمتحن معدّاته وصلابته، وهو الآن أمام أصعب محنة منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا تحت خطر الانزلاق إلى مواجهة مباشرة مع روسيا التي يعتبرها العدو الأول له، علماً بأن كل قادة الناتو كبارهم وصغارهم كانوا حريصين على عدم حدوث أي صدام مع موسكو، لأن العواقب ستكون وخيمة على دولهم، في الوقت ذاته ليست كل دول الحلف متوافقة على كيفية التصرف إذا حدث المحظور، لأن لكل دولة مصالح وحسابات تختلف عن حليفتها الأخرى.

ويُجمع خبراء وقادة عسكريون أمريكيون وأوربيون على أن (الناتو ليس بتلك القوة الموصوفة، لاسيما من حيث وحدته وتكامله)، وعلى سبيل المثال: تركيا التي تعد ثاني قوة عسكرية كبرى عدداً وعدة ضمن الحلف بعد الولايات المتحدة، تتمتع بعلاقات ودية مع موسكو أكثر مما هي مع واشنطن أو أي عاصمة أطلسية أخرى، كما أن العواصم الأوربية الكبرى باستثناء لندن لا ترغب في دخول الناتو في حرب مع روسيا أو الصين، لأنها لن تتحمل أعباءها ونتائجها، وحتى الحروب الصغرى لم يعد الحلف قادراً على خوضها، لأن الخصوم سيجدهم في كل مكان، ولهذا كله فالحلف أصبح (ميتاً دماغياً) كما وصفه الرئيس الفرنسي ماكرون، وربما يموت نهائياً وبشكل فعلي بعد توقف الحرب في أوكرانيا.. هكذا يتوقع الكثيرون.

نعود للقول إن تصريح ترامب أثار جدلاً واسعاً وانتقادات داخل أمريكا وفي أوربا، فقد حذر أمين عام حلف الأطلسي ينس ستولتنبرغ من أن (هذا التصريح يقوض الأمن الأوربي والأمريكي معاً، ويعرض الجنود الأمريكيين والأوربيين لخطر متزايد)، في حين وصفه رئيس المجلس الأوربي شارل ميشيل بأنه تصريح (متهور)، أما المستشار الألماني فوصف التصريحات بأنها (تصب في مصلحة روسيا ولا يمكن لأحد في حلفنا مصلحة في هذا).

إذاً، مثل هذه التصريحات والردود الأوربية إزاءها ستؤدي إلى إضعاف الحلف خاصة في حال فوز ترامب بالرئاسة، وحتى إن لم يفز، وقد يؤدي بالدول الأوربية إلى البحث عن خيارات بعيداً عن مظلة الحماية الأمريكية مثلما دعا إليه الرئيس الفرنسي ماكرون سابقاً حول تشكيل جيش أوربي موحد يتولى حماية الأمن الأوربي.

ومما يجدر ذكره في هذا السياق أن المساهمة الأوربية في ميزانية حلف الناتو زادت خلال السنوات الأخيرة الماضية، إلا أن واشنطن مازالت تدفع الحصة الأكبر (أي ما يقارب 70% من مجمل النفقات) وبما يعادل 3.4% من إجمالي إنتاجها القومي، بينما تنفق الدول الأوربية الأعضاء في الحلف 1.55% من إجمالي إنتاجها القومي لكل دولة، في حين يطالبها ترامب برفع مساهمتها إلى 3.4%.

وفي سابقة تاريخية منذ نهاية الحرب الباردة، ستحقق ألمانيا هدف الـ2% هذا العام للمرة الأولى، إذ ستخصص 76.8 مليار دولار للإنفاق الدفاعي، ومع ذلك يبقى مجموع إنفاقها الدفاعي سراً، وقد تحذو فرنسا وهي القوة النووية الوحيدة في الحلف حذو ألمانيا.

إذاً، يهدد ترامب أوربا بكل صراحة بـ(عصا بوتين) ويشجعه على غزو أوربا إذا تطلب الأمر ذلك، من أجل أن تزيد مخصصاتها الدفاعية في الحلف، وهذا ما يتردد الآن في أوربا عامة.

على كلّ حال، إن حلف الناتو يعاني من التخلخل والاضطراب بين دوله على إثر الحرب في أوكرانيا أيضاً، لأن الدول الأوربية هي الخاسرة الأكبر في هذه الحرب بسبب ما تتحمله من أعباء لدعم نظام زيلينسكي، وربما يقود كل ما تقدم ذكره إلى انهيار حلف الناتو.

العدد 1104 - 24/4/2024