عنصرية التزييف الأمريكية والغربية

د. صياح فرحان عزام:

إن القرية الكونية، التي بشرت بكلّ ما هو أقرب، لم تخبر العالم بالشيء الأغرب وهو (موت حيّ في بث مباشر)، والعالم النخبوي مشغول بالتغني بحضارته الإنسانية.. شيء معيب فعلاً.

في ستينيات القرن الماضي، استشرف الكاتب الكندي مارشال ماكلوهان قرية الكون، ووصفها بأنها القرية التي ستجمع البشرية وستقرب المسافات، لكنها في الوقت نفسه ستحيي روح العنصرية، ويوماً بعد يوم يزداد الاقتناع بهذه النظرية وبصدق حديثه والدقة في استشرافه للمستقبل.

على ضوء ذلك، يظهر سؤال مهمّ: هل ما يجري اليوم ونراه بأعيننا هو عودة إلى جاهلية العنصرية؟ وكيف تُفهم الحروب العنصرية؟

إزاء مثل هذا السؤال، يجب العودة إلى التاريخ لفهم الحاضر وشيء من المستقبل.. عبر التاريخ، وقعت أكثر الدول في فخّ الحروب العنصرية، ومن أشهرها وأبرزها حرب أمريكا على الهنود الحمر والإبادة الجماعية لهم رغم أنهم أهل تلك الأرض وسكانها الأصليين.

لقد بدأت مذبحة الهنود الحمر بعد اكتشاف البحارة الإسبان القارة الجديدة في القرن السادس عشر، وجرى تنفيذها بشكل همجي من قبل القوى الاستعمارية الأوربية التي تملك من السلاح والعتاد ما لا يملكه أهل الأرض الأصليون (أي الهنود الحمر).. ونفذت مذابح لم تنقل ببث مباشر (كما يحصل هذه الأيام)، إلا أن ما كُتب فيها وعنها ترك للعالم ولمرتكبيها عاراً تخجل منه الإنسانية.. إسبانيا والبرتغال وفرنسا وبريطانيا، الكل اجتمعوا على أولئك المساكين بهدف إبادتهم والاستحواذ على الأرض.. وفي وقت لاحق لاسيما في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ارتكب الأمريكيون في أمريكا الشمالية أشهر وأشنع الجرائم والمذابح ضد الهنود الحمر بهدف دفعهم إلى الهجرة القسرية.. إذاً، تاريخ طويل من عذابات شعب حاول بكل الوسائل أن يبقى سيداً على أرضه إلا أنه لم يستطع ذلك.

حروب طويلة ارتكبت خلالها جرائم تفوق الوصف وقعت وسُجّلت في كتب التاريخ، ومعاناة استمرت أعواماً طويلة، منها حرب عامي 1675-1676 التي أسفرت عن تدمير نصف مدن وقرى الهنود الحمر، وتواصل الهجوم عليهم حتى عام 1900، وقتل الأمريكيون بقسوة نحو مئة مليون من الهنود الحمر.

هذه الحروب الطويلة إنما تدل على أن الشعب رغم بدائية أسلحته، لم يستسلم لتلك الحروب العنصرية الشعواء التي كرست المحتل سيداً على أرضه، ورغم كل ذلك لم تتم مساءلة أمريكا تجاه تلك الجرائم ولا غيرها.

وكانت أشهر حركات العزل العنصري في أمريكا العنصر الإفريقي عام 1890، وتطورت هذه الحركات إلى إصدار قانون جيم كرو، للحرمان والفصل العنصري لذوي الأصول الإفريقية الذين اضطروا إلى الامتثال للقانون خوفاً من أن يقعوا ضحايا قتل إجرامي جماعي، حتى أن اليابانيين (ذوي العرق الأصفر) لم يسلموا من العنصرية الأمريكية قبل الحرب العالمية الأولى، واستمر أمر التفريق بين المواطنين الأمريكيين واليابانيين إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية.

هذا غيض من فيض من تاريخ العنصرية الأمريكية والغربية وصنوفها.

اليوم، وفي بث مباشر نرى كأن التاريخ يعيد نفسه بألوان عصرية مضللة، بمعنى ليست عنصرية الأبيض والأسود المعروفة في أمريكا، بل هي عنصرية التزييف المتقن لطمس الحقائق وإثارة نعرة العنصرية ولو بطرق احتيالية لتبرير حرب إبادة إجرامية في غزة.. لقد سرقوا الحقيقة الموثقة في المراجع التاريخية، فصوّروا العرب على أنهم أعداء للسامية، وأصبحت هذه الأسطوانة المشروخة شرارة نار يشعلها الغرب متى يشاء ويوظفها لخدمة الحركة الصهيونية، ولكن مع الأيام، سقطت مثل هذه الذرائع البلهاء. وفي أيامنا هذه، يتجاهل البث الحي على بعض شاشات التلفزة الحقائق، فهو مثلاً يصر على أن يردد ما يسميه (حق الظالم في الدفاع عن نفسه ضد المظلوم)، إضافة إلى قلب الصورة، وعكس الحقيقة من أجل تبرئة كيان الاحتلال من جرائمه.

على صفحات التواصل الاجتماعي تتحرك مشاعر الناس أمام قلب أحمر، يضغطون عليه بكل قواهم فلا يفهم القارئ أو المشاهد، هل هم مع أو ضد بهدف التضليل!

إذاً، عاد التاريخ بحضارة البث المباشر، ولكن ببث ملغوم يعبر عن حضارة بلا مشاعر إنسانية.. حضارة زائفة.

هذه بعض من المعلومات عن تاريخ العنصرية الأمريكية والغربية واضطهادها وقمعها للحريات واستعباد الآخرين دون رحمة ولا وازع من ضمير، لذلك فإن الموقف الأمريكي من دعم حرب الإبادة في غزة ليس مستغرباً، فأجداد الأمريكيين الحاليين مارسوا هذه الإبادة بحق الهنود الحمر وغيرهم.

العدد 1104 - 24/4/2024