في انتظار غودو

صفاء طعمة:

مرّت ثلاثة عقود منذ أن نشر الكاتب الإيرلندي صمويل بيكيت مسرحيته الشهيرة (في انتظار غودو) باللغة الفرنسية. عُرضت تلك المسرحية لأول مرة في أوربا عام 1955، وقد استخدم فيها الكاتب أسلوباً ساخراً من الحوار العبثي وعقدة نصية لا تقليدية مثيرة للجدل. وكانت تلك بداية ظهور ما يسمى بمسرح العبث، الذي كان بيكيت أحد أبرز رواده في خمسينيات القرن الماضي.

ولأن الحوار في أي مسرحية يعتبر العنصر الأكثر تميّزاً بعيداً عن الزمان والمكان، وهو الأساس في الحبكة الدرامية للنص، إلا أن ذلك الحوار الذي كتبه بيكيت في مسرحيته كان غامضاً مبهماً مبتوراً تعوزه الموضوعية والترابط والتجانس، ومتأرجحاً بين البساطة والإرباك.

شخصان ينتظران شخصا ثالثاً، ويبدو السأم سيد الموقف.

كان ذلك فن التحدث عن الملل بتسلية عالية تقتل الملل.

وفي الوقت نفسه نجد أن كل شخصيات المسرحية كانت تتحدث دون أن يتمكن أحدها من فهم الآخر، أو ان يستطيع أن يوصل رسالته إليه.

تدور مسرحية (في انتظار غودو) حول شخصيتين (فلاديمير) و(إستراجون) المشرَّدَين، وتبدأ المسرحية وهما يقفان في وسط أرض جرداء على قارعة طريق قُرب شجرة عارية إلا من بعض الوريقات، وهي أيضا عنصر أساسي من عناصر النص، وكانا ينتظران شخصاً ًثالثاً يُدعى (غودو) لمدة يومين كاملين، آملين أن يخلّصهما من حالة البؤس والفقر واليأس التي يعيشانها.

ورغم مرور الوقت وتكرار العبارات والأسماء، يظلان في حالة انتظار، حتى إن شخصية غودو بقيت مجهولةً حتى آخر المسرحية، وهي تُشير إلى شخص ما، سيأتي للمساعدة، أو إلى الأمل الذي يسعى إليه الإنسان طوال حياته.

 

وتقترب النهاية دون أن يُقْدِما على أي سلوك من شأنه أن يدفعهما لعمل أيّ تغيير يذكر في مسار الأحداث، ورغم الخيبة التي ترافق عادة تعليق الأمل بالمجهول، والتي ربطها النقاد هنا بالماورائيات، إلا أنهما استسلما في نهاية المطاف لها وانتهت مأساتهما بطريقة سوداوية، انتحاراً على غصن شجرة الخلاص.

ورغم شهرة المسرحية إلا أن ما أريد أن اشير إليه هنا أنها عكست الواقع الأليم الذي عاشه مجتمع الكاتب في تلك الفترة، وأيضاً يمكن أن تعكس الواقع الأشد إيلاماً وعبثية الذي يعيشه مجتمعنا السوري في الوقت الحاضر.

فأيٌّ منا يمكنه وبكل سهولة أن يستبدل الشخصيات الرئيسية في المسرحية ويسقطها على واقعه المعيش. وأن يتخيل بدلاً عنها أي عنصر من شخصيات المجتمع في الحاضر العبثي السوري، ويمكن أن نأخذ بشكل عام المواطن والحكومة، والحديث عن تعاطي أحدهما مع الآخر، فكل منهما يعيش في مساحته وعالمه الخاص البعيد عن الآخر، ويتحدث لغة لا يفهمها الأخر، فنجد أن الحكومة تتخبط أغلب الاحيان في توصيف غير مطابق لأرض الواقع وتتخذ قرارات سريالية غير مدروسة وغير مستقرة، تجهد كاهل المواطن ونفسيته وجيوبه، وهو الذي يعيش عبث استمرار الشكوى غير المجدية والحوار الأخرس فيما بينهما، ويدرك فشل كل محاولاته في انتظار المجهول، والماورائيات، لتغيير هذا الواقع المتأرجح المخيب للآمال، ويجد نفسه مدفوعاً لأن يعلق أمله على غصن شجرة الخلاص، فيختار أفراده أغصان خلاصهم الخاصة، كل على طريقته، فإما الهجرة والبحث عن البدايات الجديدة وإما الانتحار باللامبالاة في الداخل.

لكن، ومع كل ما يعيشه المواطن في هذا العبث، يبقى هناك إيمان داخلي بأن الاستسلام لذلك مرفوض وأن بقية رمق محتم لاستمرار الحياة لابد موجودة.

نستند في رهاننا على ذلك إلى تركيبتنا المجتمعية والنفسية على هذه الأرض التي اعتادت عبر تاريخها أنواعاً مختلفة ومتلاحقة من المآسي، وتحملت ثقل قسوتها، بل وتغلبت عليها أيضاً، إلا ان هذا الإيمان بحاجة ماسة إلى وعي أكبر للواقع من الشخصية الأكثر فعالية هنا وهي الحكومة، لتحدد بصدق المشاكل التي لا تعد ولا تحصى وتوصفها وتعالجها، وتتخذ خطوات واقعية عملية بعيدة عن المنهج السريالي العبثي التي تتمسك به.

أما الشخصية الأخرى اليائسة والتي تتمثل في جيب المواطن ونفسيته، فهي بأمس الحاجة للرعاية والدعم الإسعافي، ليكون قادراً على احتمال زمن انتظار التغيير الذي يطول، أو على الأقل ليكون قادراً على تحمل سوداوية غودو المحلية.

عندئذٍ فقط يصبح الخلاص من هذه التراجيديا التي نعيشها أمراً قابلاً للتنفيذ.

العدد 1104 - 24/4/2024