أسطورة (بجماليون) وخطر المواد الاصطناعية

يونس صالح:

تتناول أسطورة (بجماليون) الشهيرة قصة فنان نحت من الحجر تمثالاً رائعاً لامرأة، ومن شدّة افتتانه بهذا الجمال ظل يضرع إلى الآلهة لكي تدب الحياة في تمثاله حتى تحقّق له ما أراد.. ولكنه شقي بحبه للمرأة التي صنعها بنفسه، فسعى إلى تدميرها تدميراً، وأحسب أن القارئ قد فطن إلى علاقة هذه الأسطورة بموضوع هذه المقالة.. فقصة الإنسان مع المواد الاصطناعية المستحدثة شبيهة بهذه الأسطورة..

لقد استحدث العلم هذه المواد التي لم تكن موجودة من قبل، وربط الإنسان حياته بها ربطاً وثيقاً، لكنه بات يشقى بها أيّما شقاء.

هل نستطيع أن نتصور حياتنا من دون أدوات التغليف الحديثة، ومن دون الخيوط والأنسجة الاصطناعية، ومن دون الرقائق التي تدخل في صناعات السيارات والطائرات والسفن وغيرها، ومن دون مبيدات حشرية ومبيدات فطرية ومبيدات أعشاب ومن دون أصباغ ومواد دهان.. ومن دون.. ودون؟

بإمكاننا أن نسترسل هنا لسطور عديدة، وكل هذه أمثلة جد قليلة لمنتجات جد وفيرة تصنع من الهيدروكربونات ولها فوائد جمّة، إلا أنها تتراكم في البيئة ملوّثة إياها.. ولنتناول هنا أمثلة ثلاثة فقط وبصورة موجزة، أظنّها تكفي لتفهّم حدّة التناقض الذي يعيشه إنسان اليوم بسبب هذه المواد الاصطناعية.

من أشهر المبيدات الحشرية التي صنعها الإنسان من مشتقات النفط مبيد مشهور تحت اسم (د.د.ت)، وقد كان لاستحداث هذه المادة بأثرها المضاد للحشرات وقع الإحساس ببداية ثورة علمية وصناعية كبرى في مجال المبيدات الحيوية بصفة عامة، وبالفعل، فلقد استعملت هذه المادة في الحقول والمخازن والمنازل للقضاء على الحشرات والآفات، وكانت مذهلة فيما يختص بأثرها القاتل لهذه الأحياء.. ولكن الذي لم يكن في حسبان العلماء هو أن الحشرات سرعان ما تعودت على هذا السم القاتل وتولدت منها سلالات بفعل الانتخاب الطبيعي لم تعد تتأثر به.

وليت الأمر اقتصر على ذلك.. لقد تراكمت هذه المادة – التي لا تقوى الميكروبات على هضمها- في التربة والمياه وتسللت إلى خلايا النباتات ومنها إلى أجساد الحيوانات والإنسان، وهددت حياة الرضع من البشر وغير البشر، لذلك لم يكن هناك بد من منع استخدامها منعاً باتاً.

أما المثال الثاني فيختص بالرقائق الاصطناعية التي يطلق عليها العامة تجاوزاً اسم (البلاستيك)، وما نقصده هنا هي المواد المستخدمة في التغليف، وتلك التي تعمل منها حقائب حمل المشتريات الشائعة في معظم المحال والحوانيت.. قديماً كان الورق هو الذي يستعمل في كل هذه الأغراض، وحينما كان يجري التخلص منه بعد أداء مهمته، كانت مكروبات التربة تهضمه عن آخره بلا أية مشاكل بيئية.. أما اليوم فمشكلة المشاكل هي أن هذه الرقائق تستعصي على الهضم الميكروبي، ومن ثم فقد أصبحت تتراكم منها تلال توشك أن تغرق البشرية فيها.. ولو فكر الإنسان في حرقها لكان خطرها أعمق.

أما المثال الثالث الذي نسوقه فهو لأدوات الدهان والأصباغ الاصطناعية الحديثة، وكلها مواد تستعصي على الهضم الميكروبي، ولا يمكن التخلص منها بعد إنجازها لمهامها، ومن ثم فهي تتراكم في البيئة كملوثات، وقديماً كان الإنسان يحصل على الأصباغ ومواد الدهان من أصول نباتية- أي أنها كانت مواد تقليدية تحللها الميكروبات، ينبغي أن نشير إلى أن التلوث الكيميائي الناجم عن مشتقات النفط والكلور لا يمثل إلا نوعاً واحداً من أنواع عديدة لا مجال لتناولها هنا.

ولكن يجب القول هنا إن حجم التلوث الكيميائي في الأرض أضخم بكثير مما ذُكر في هذه المقالة الموجزة.

لقد كان العلم هو الذي أعتق غول التلوث من قمقمه- عن غير قصد سيّئ بالطبع- وعلى العلم وحده أيضاً تقع مسؤولية إعادة هذا الغول إلى قمقمه.. وعلى الرغم من أن هذه المهمة في غاية الصعوبة، إلا أن هذا الخطر قد أجبر علماء عديد من الدول على البدء في العمل لإنجازها، من خلال القيام بدراسات علمية تعالج هذا الخطر الكامن.. والعبرة الرئيسية من هذه الدراسات تكمن في أن العلم قد بعث أملاً جديداً يتعلق بإمكان إنتاج مواد بديلة للمواد الاصطناعية ولكنها مواد طبيعية قابلة للهضم الميكروبي.. وبإحلال هذه المواد محل المواد الاصطناعية بالتدريج يمكن التخلص من مشكلة التلوث الكيميائي بالتدريج أيضاً.. وقديماً قالوا (من سار على الدرب وصل)، ولكن للأسف أين نحن من كل ذلك؟

العدد 1104 - 24/4/2024