سوري يأكل رسالة مصطفى أمين

عبد الرزاق دحنون:

حصلتُ على نسخة إلكترونيّة مصورة عن نسخة ورقيّة من كتاب مصطفى أمين (سنة أولى سجن) صادر عن دار أخبار اليوم آخر مرة في القاهرة عام1991. الكتاب دراما إنسانيّة، ورؤية ثاقبة لعالم السجون، هذا العالم الغريب وراء حجب الأسوار، إنه أدب السجون المكتوب بقلم مفكّر وسياسيّ وصحفيّ عظيم. كتاب (سنة أولى سجن) طُبع خمس مرّات في عام واحد، الأولى في أيلول (سبتمبر) 1974، الطبعة الثانية في كانون أول (ديسمبر) 1974. الطبعتان الثالثة والرابعة في شباط (فبراير) 1975، والطبعة الخامسة في أيار (مايو) 1975. وسجَّل أكبر رقم قياسيّ في توزيع الكتاب السياسيّ في المشرق العربيّ. أراد مصطفى أمين أن يُتابع، فكتب (سنة ثانية سجن) وألحقه بكتابة (سنة ثالثة سجن) وهي متوفّرة على مواقع تحميل الكتب بنسخ إلكترونيّة مصوّرة، ولكنني -ويا لأسف- لم أجد نسخاً إلكترونيّة من (سنة رابعة سجن) و (سنة خامسة سجن) ولكن رأيتً غلافهما فقط في أحد المواقع. هل تابع مصطفى أمين السلسلة ووصل حتى سنة تاسعة سجن، أم اكتفى؟ أنا لا أعلم.  ولكنني قرأتُ في كتاب مصطفى أمين (200 فكرة) الصادر في طبعته الثانية عام1987 ما يلي: (عندما خرجتُ من السجن أصدرتُ كتاب سنة أولى سجن وسنة ثانية سجن وسنة ثالثة سجن، وأتمنى أن أتم السلسلة لو كتب الله عمراً إلى سنة تاسعة سجن!).

في زنزانة مصطفى أمين كان القلم من الممنوعات، ومن المؤكد أن الورق ممنوع والحبر ممنوع. تنقّل الصحفي المصري الأشهر في تاريخ مصر الحديث بين عدة سجون في تسع سنوات مدة حبسه أيام جمال عبد الناصر ومن ثمَّ أنور السادات (أخرجه أنور السادات من السجن شتاء عام 1974)، تنقّل بين سجن القبّة، ثمَّ السجن الحربي في صحراء مدينة نصر، ثمَّ سجن القبة مرة ثانية، ثمّ سجن الاستئناف في ميدان أحمد ماهر بباب الخلق، ثمَّ سجن القناطر الخيرية، ثمَّ سجن الاستئناف مرة أخرى، ثمَّ سجن ليمان طرة، ثمَّ معتقل القصر العيني. وفي كل هذه السجون والمعتقلات كان يُقال: القلم ممنوع والورق ممنوع والحبر ممنوع. وبلغ الأمر بالعقيد صلاح مكاوي مأمور سجن ليمان طرة أن منع دخول ورق التواليت خشية أن يكتب مصطفى أمين خطاباته عليها. وفي بعض هذه السجون كانت الكتابة ممنوعة على الاطلاق. وفي سجن ليمان طرة مثلاً كانت الأوامر والتعليمات التي أصدرها وزير الداخلية بشأن معاملة مصطفى أمين ألا يوضع ورق أو حبر أو قلم في زنزانته، وأن توضع في مكتب ضابط العنبر، وأن يكتب مصطفى أمين إلى أسرته مرتين كل شهر، وألا يزيد كل خطاب عن نصف ورقة كراس، وأن يكتب الخطاب في مكتب الضابط وفي وجوده.

ماذا يمكن أن يفعل السجين غير إطاعة ما يقوله مأمور السجن. وكان مصطفى أمين مسجوناً نموذجياً، أطاع الأوامر والتعليمات، مهما كانت سخيفة وجائرة. ولكن مصطفى أمين قرر أن يثور على أحد هذه التعليمات، ويُخالفها وهي الخاصة بعدم الكتابة. وذلك أن الكتابة بالنسبة للكاتب الصحفي أشبه بالتنفس، وكان معنى هذه التعليمات الجائرة أن يتنفس مصطفى أمين مرتين كل شهر! فماذا فعل؟ أخفى مصطفى أمين القلم والورق عند مسجون غير سياسي (مسجون عادي لا يقرأ ولا يكتب) في زنزانة تبعد 13 زنزانة عن زنزانته.

وبدأ بمعاونة عدد من زملائه المسجونين عملية تهريب الورق والقلم، ثمَّ عملية تهريب الرسائل إلى أخيه التوءم علي أمين في لندن وصديقه أنيس فريحة في بيروت، وعدد من الصديقات والأصدقاء خارج السجن. وكانت عملية خطرة وشاقة ومستحيلة، وكان الذين يقومون بها يُعرّضون حياتهم للخطر ومستقبلهم للضياع. وكان يعتمد على المسجونين المظلومين، فالمظلوم يتحول إلى شهيد، والشهيد يجود بآخر قطرة من دمه في سبيل ما يؤمن به. وكان الهدف الذي سعى إليه مصطفى أمين هو مقاومة الظلم، وخروج الحقيقة المسجونة إلى خارج الأسوار. وحدث أن ضُبط عسكري يُهرّب خطاباً إلى مسجون سياسيّ في سجن (أبو زعبل) فقبض عليه، وفصل من الخدمة، وحكم عليه بالسجن مع الشغل. كلّ ذلك من أجل خطاب واحد. ولكن الرجال الشجعان الذين قاموا بهذه المهام الخطرة من أجل مصطفى أمين ومن أجل عدد من المسجونين السياسيين لم يخافوا قط. وكان بينهم مصريو ن وسوريون ولبنانيون وفلسطينيون.

وذات يوم ضَبط حارس في سجن (ليمان طرة) أحد المسجونين السوريين واسمه (محمد نادر جلال) وكان يخفي في ملابسه خطاباً من مصطفى أمين مطلوباً تهريبه، وحاول الحارس تفتيش المسجون السوريّ، وخاف المسجون أن يقع الخطاب في يد إدارة السجن، فأسرع وأكل الخطاب؛ وبذلك لم يعرف الضابط ولا الحارس أن الخطاب من مصطفى أمين. ووضعوه في التأديب أربعة شهور، والتأديب هو أشبه بالجبّ لا يدخله الهواء، ولا تدخله الشمس، ويحرم فيه المسجون من كلّ ضرورات الحياة، وضربوه وعذبوه، ومع ذلك لم يفتح فمه، ولم يعترف بالسرّ الرهيب. واستطاع مصطفى أمين خلال تسع سنوات، أن يُهرّب إلى خارج السجن آلاف الرسائل. واستطاعت هذه الرسائل كلها أن تخترق الحصار المضروب، وأن تقتحم كلّ القيود المفروضة، ولم تضبط منها رسالة واحدة، ولا حتى تلك الرسالة التي أكلها (محمد نادر جلال) السجين السوري في سجن ليمان طرة.

العدد 1104 - 24/4/2024