الحركة الصهيونية وفلسطين

يونس صالح:

إذا كان من الشائع أن الحركة الصهيونية التي تزعمت وخططت لتجميع يهود العالم في (مكان ما) يكون بمنزلة وطن لهم (سيناء، أوغندا، فلسطين) بدأت على يد هرتزل (1860-1904) وبصفة خاصة عند محطة المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897، فإن التفكير في الاستيلاء على أرض الشعب الفلسطيني بدأ قبل ذلك بكثير.

ومن مظاهر تأثير هذا الفكر المأخوذ من المرجعية التوراتية، أن حزب (المفدال) الديني قد عارض باستمرار في برامجه الانتخابية أيّ مشروع يتضمن تنازلاً عن أجزاء من أرض دولة الاحتلال الإسرائيلي التاريخية (أرض أجدادنا، كما يقول). ومحاور هذا الحزب السياسية والدينية أن لا تقوم بين البحر ونهر الأردن إلا دولة واحدة هي دولة الاحتلال الإسرائيلي، أي رفض إقامة دولة فلسطينية، وأن القدس هي من الآن وستبقى إلى الأبد عاصمة دولة الاحتلال الإسرائيلي، واستمرار حركة الاستيطان في كل أجزاء فلسطين، وبضمن ذلك الضفة الغربية وقطاع غزة، وأن هضبة الجولان جزء من دولة الاحتلال الإسرائيلي غير قابل للسلخ عنها، وشجب الحكم الذاتي الفلسطيني، واعتباره خطراً على دولة الاحتلال لأنه يمكن أن يؤدي إلى نشوء دولة فلسطينية.. هذا مثال واحد عن الصهيونية الدينية وتياراتها القائمة على التوسع والاحتلال والاستيطان. لقد هاجمت تلك التيارات الصهيونية الدينية هرتزل وأمثاله من دعاة الصهيونية السياسية لأنهم نادوا بأن الوطن المنشود لليهود لا بد أن يقام على أسس علمانية. وقد يتساءل البعض عن هذا التناقض الظاهري بين دعاة الصهيونية السياسية ودعاة الصهيونية الدينية، وعن تفسير ذلك.

إن القارئ لفكر هرتزل ودعاة الصهيونية السياسية يصطدم بين الحين والآخر بعبارات تنضح بالعواطف الدينية وتؤكد على الإيمان بطريق الآباء والأجداد والحنين إلى أرض التوراة، كما تكثر في خطبهم الاقتباسات التلمودية، مما يوحي ببعض التناقض واللبس مع ما تبين لنا من علمانية هؤلاء القوم دعاة الصهيونية. وإذا ما علمنا أن هذه الاقتباسات والتصريحات الرنانة من قبلهم كانت من أساليب الاستثمار الأقصى للدين، واستغلال القيمة الدعائية والرصيد العاطفي الذي تمتلكه العقائد الدينية عادة، في سبيل أهداف الصهيونية، زال اللبس واختفى التناقض.

وفي مقابل التيارات الدينية التي تؤيد الاستيطان والاحتلال، وترفض أي حق للشعب الفلسطيني في أرضه، هناك تيارات دينية أخرى تخالف الأخرى، بل وترفض الصهيونية السياسية وتعارض قيام دولة الاحتلال الإسرائيلي، وهذه الأحزاب تنتمي إلى اليهودية الأرثوذكسية المتشددة، وهي تؤمن بأن الخلاص المسيحاني لا يمكن أن يتحقق بوسائل بشرية، سواء كانت هذه الوسائل المال أو السلاح، وأن الذين يسمّون أنفسهم بالصهيونية ومساعيهم الرامية إلى تأسيس دولة قومية يهودية في فلسطين تتنافى مع العقائد المتعلقة بانتظار مجيء المسيح في اليهودية، وأن بناء مملكة دولة الاحتلال الإسرائيلي لابد أن يتحقق على يد المسيح المنتظر.

ولكن بعد حرب حزيران طرأ تحول على موقف معظم الأحزاب الدينية الصهيونية وغير الصهيونية، فاعتبرت هذه الحرب معجزة وإشارة ربانية لبداية الخلاص المسيحاني، مع وجود حالات قليلة أكدت أن (دولة الاحتلال الإسرائيلي ككيان صهيوني هي تعبير عن الكفر والتمرد على إرادة الله)، أي أنه لايزال هناك تناقض داخل التيارات الدينية، إلا أن أغلبية هذه التيارات يغلب عليها التعصب، وتأييد الاحتلال الإسرائيلي لأرض فلسطين.

إن هذه التناقضات داخل التيارات الدينية في دولة الاحتلال الإسرائيلي يواكبها تناقضات أخرى بين الأصوليين اليهود والعلمانيين، ويتمثل الصراع بين الطرفين في الموقف من طبيعة الدولة التي ينشدها كل فريق، إلا أن التطرف الأصولي اليهودي بلغ أقصى مداه في الآونة الأخيرة، ويمارس تأثيره الكبير على المجتمع أيضاً، فهو يسعى إلى إقامة دولة دينية في دولة الاحتلال معادية للسلام وللعلم ولحقوق الإنسان، وتقوم المحاكم الدينية بدور مهم جداً في هذا الصراع الداخلي بينهم وبين من يسمّون أنفسهم بالعلمانيين، الذين يؤكدون أن الدولة لا تدار حسب الشرائع الدينية، بينما تسعى التيارات الدينية لإدارتها حسب الشرائع اليهودية التي جاءت في التلمود.. وهذا التناقض ما هو إلا صدع داخل دولة الاحتلال، ومن شأنه أن يزداد حدة في المرحلة المقبلة أكثر من أي مرة في الماضي.

ولا شك أن الأحداث الأخيرة في غزة والعدوان الإسرائيلي المتوحش على القطاع، سيعمق هذ التناقض إلى درجة كبيرة، وهذا ما يجب أخذه أيضاً بالحسبان.

الخلود لشهداء الشعب الفلسطيني الذي سينتصر حتماً في نضاله.

 

العدد 1104 - 24/4/2024