من اليمن إلى جنوب إفريقيا

أحمد ديركي:

ما زالت الحرب، بصيغتها العسكرية، على فلسطين قائمة، متخذة من قطاع غزة مركزاً يبرهن من خلاله الكيان الصهيوني وداعموه أن همجية الأنظمة الرأسمالية، ومن يدور في فلكها لا علاقة لهم بمفهوم الحق، أو الإنسانية أو كل ما يمكن أن يتصف فيه الإنسان من صفات ترفع من جنسه إلى مصاف لا حيواني.

المهم بالنسبة لهم ما يمكن أن يحققه هذا النمط الإنتاجي الرأسمالي من أرباح وهيمنة على الأسواق، العالمية والإقليمية والمحلية. فلا مكان لمفهوم الإنسان في هذه المعادلة الرأسمالية. وما زالت القضية الفلسطينة تمثل نموذجاً لهذه المعادلة، وإن كانت في بعض الأحيان تخفت وتيرتها العنفية.

حالياً عادت الوتيرة العنفية لتبرز على السطح لتقول: لا صوت يعلو فوق صوت مصالح الرأسمالية. وهذا أمر بديهي لكل متتبّع لمسيرة تشكّل نمط الإنتاج الرأسمالي، منذ مراحله الأولى (الرأسمالية المتوحشة)، وصولاً إلى ما هو عليه اليوم، وإن تعددت تسمياته من “النيو – ليبرالية”، إلى “العولمة”.

لكن نمط الإنتاج يعمل على تشويه الوعي الطبقي، وفي الوقت عينه، بعد أن أوجد أنظمة سياسية محددة بحدود جغرافية، أوجد كيانات مصطنعة في أوساط شعوب ترفض هذا الكيان المصطنع، ضمناً، وإن قبلت به شكلاً. فأصبحت هذه الكيانات مع مرور الوقت دولاً (مستقلة) لها مفهومها (القومي) المحدد بحدودها السياسية. ورسمت كل دولة في العالم مسارها على كل الأصعدة الداخلية والخارجية.

لكن الأمر المستغرب بكل هذا المسار أنه في مسألة الاستقلال واحترام سيادة الدولة.. فإن هذه المفاهيم تلتغي عند الاقتراب من الكيان الصهيوني، فهو كيان محتلّ لفلسطين هجّر شعبها، وارتكب المجازر بحق الشعب الفلسطيني، ويحاول إلغاء فلسطين عن الخريطة ومن الواقع، وفرض كيانه مكانها، وتأكيد أنه كيان شرعي يستحقّ الاعتراف به.

لماذا صيغة الماضي في الكتابة، لأن هذا ما كان يحاول فعله وكان هناك من يعارضه على المستوى الدولي والإقليمي والمحلي، ولكن حالياً يجدد الكيان الصهيوني همجيته الحيوانية وداعموه يوافقون على كل ما يرتكبه من مجازر وأفعال أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها أفعال وحشية لا إنسانية، تتخطى حدود وحشية الحيوان المفترس.

فالنظام السياسي الأمريكي يدعم وحشيته علناً، ويقول إن على الكيان الصهيوني أن يستكمل وحشيته ضد الشعب الفلسطيني، وتحديداً قطاع غزة وسلطتها السياسية المتمثلة بحماس، كي لا تنتصر حماس! والدول الأوربية توافق الأمريكي بهذا، إلا بعض الأصوات القليلة، سواء كانت متأتية من بعض النواب، أو بعض الرموز السياسية. لكن يبدو من الاحتجاجات الشعبية في أوربا أن الشعوب الأوربية ترفض همجية الكيان الصهيوني.

الغريب أن الأنظمة العربية التي كانت تدعي أن الكيان الصهيوني (عدو) لها وأن فلسطين عربية، باعتبار ان الأنظمة العربية عربية، تسانده بطرق متعددة في همجيته المستحدثة. فهي ما زالت تقيم علاقات ممتازة مع الأمريكي، ولم تتخلَّ عن استكمال التطبيع مع هذا الكيان الوحشي. والأنكى من كل هذا فأنها تسمح للأمريكي والصهيوني أن ينطلق من قواعده العسكرية المقامة على أرضه لضرب فلسطين. وهذا ما يقال علناً لا بالسر.

عارض اليمن علناً ما يحدث من إبادة همجية للشعب الفلسطين وحاول أن يدعمه، وفقاً لقدراته، فتم اتخاذ القرار بضربه. والقرار علني لا سرّي، فقُصف، وبعض الأسلحة التي قصفت فلسطين انطلقت من البحرين! والبحرين دولة خليجية (عربية) وكل الأنظمة العربية تقيم معها علاقات ودية! كما أن البحرين عضو في مجلس التعاون الخليجي، أي لا يمكنها القيام بهذا العمل إلا بموافقة كل الدول الأعضاء في المجلس. ما يعني أن كل أعضاء مجلس التعاون الخليجي موافقون على ضرب اليمن. وكل الدول العربية لم تتفوه باعتراض، ولو لفظي، موجه إلى دول هذا المجلس لفعلته هذه!

في الوقت الذي قطعت فيه بعض دول أمريكا اللاتينية علاقاتها مع الكيان بسبب همجيته، تزحف أنظمة عربية باتجاه التطبيع مع الكيان!

همجية وحشية استفزت جنوب إفريقيا، فأقامت دعوى على الكيان في محكمة العدلة الدولية، لتدينه بارتكابه مجازر حرب ومجازر ضد الإنسانية. الدعوة قائمة والمحاكمة جارية والأنظمة العربية لا تجرؤ على إدانة لفظية لهذا الكيان. أقيمت الدعوى على الرغم من كل الضغوط التي تواجه جنوب إفريقيا، والمحكمة الدولية، ضمناً، لعدم الإدانة.

اليمن تقول لا لهذا الكيان الهمجي، فتقصف عدد من الدول الإمبريالية بتأييد عربي في جزء منه ضمني وفي جزء آخر علني، وجنوب إفريقيا تقيم دعوى عليه فيعتّم عليها وتزداد الضغوط على المحكمة لرفض الدعوى، والأنظمة العربية لا تحرك ساكناً لدعم جنوب إفريقيا في دعواها.

في ظل كل هذه الوحشية يعلن الكيان الصهيوني أن همجيته الوحشية قد تستمر حتى نهاية عام 2024، والعالم يؤيده، والأنظمة العربية تزحف نحو التطبيع معه. وكل معارض لهذا الكيان سوف يلقى جزاءه من قِبل النظام أو من قِبل الدول الإمبريالية. على الرغم من هذه الضغوط الهائلة ما زال الشعب الفلسطيني يقاوم، وما زال جزء من شعوب العالم تقول لا لهذه الهمجية.

نظام همجي، رغم هامشيته على المستوى العالمي، إلا أنه يلعب دوراً مركزياً في المنطقة، لما يمثله من حليف أول لنمط الإنتاج الرأسمالي ليحقق مصالحه، ويبدو أن العالم العربي وأنظمته السياسية قد بدأت تعي أن وجودها مرتبط بانتمائها الأعمى لهذا النمط الرأسمالي، فأخذت تزحف باتجاه الكيان الهمجي لتقول إننا ننتمي إلى هذا النمط الرأسمالي من دون أي تحفظات، حتى لو كان الثمن إبادة الشعب الفلسطيني وإبادة القضية الفلسطينة أو الموافقة على حل القضية الفلسطينة كما يشاء الكيان والدول الامبريالية. لكن هذا لن يحدث ما دام هناك من يقول لا، إن كان على المستوى الشعبي أو كما يفعل اليمن ودولة جنوب إفريقيا وبعض دول أميركا اللاتينية المقاومة والرافضة لهذا الواقع أكثر مما ترفضه الأنظمة العربية!

العدد 1104 - 24/4/2024