الحروب لا تصنع المقابر.. إنما تصنع التاريخ

د. نهلة الخطيب:

قال تشارلز فريدمان وهو دبلوماسي أمريكي مخضرم: (نحن لدينا مشكلة كبيرة جداً، نحن لم نعد نستخدم الدبلوماسية ولا القوة الناعمة، نحن ما نفعله الآن هو إما القوة، أو التهديد باستخدام القوة، أو فرض عقوبات والتهديد بفرضها، وهذه تؤدي إلى ردود فعل سلبية).

في ذروة الحملة الأمريكية، الإسرائيلية البربرية ضد الشعب الفلسطيني، زيارة رابعة لوزير الخارجية الأمريكية بلينكن إلى الشرق الأوسط، وقد أعدّ العدة لعملية ديبلوماسية على مقاسهم، ربما لتدارك تفجير المنطقة، ونزع فتيل الأزمة، وما يترتب عليه من تداعيات كارثية على الوجود الأمريكي في الشرق الأوسط، الذي يبدو في الوقت الحاضر ضرورة استراتيجية بالغة الأهمية في الصراع العالمي، وهناك حسابات أخرى، الحرب الروسية الأوكرانية، وتمدد الصين في الشرق الأوسط، وعلاقاتها مع دول مجلس التعاون الخليجي، مما أدى إلى تصاعد القلق لدى الإدارة الأمريكية.

توقيت الزيارة يثير الجدل، في مرحلة الغضب الشعبية والرسمية، بسبب ما فعلته إسرائيل مؤخراً، بدعم مطلق من أمريكا!!  فالحرب في غزة، دخلت مرحلة الانكفاء، وانتقلت إلى مرحلة أخرى وهي مرحلة الاغتيالات، التي بدأت تباعاً من الضاحية الجنوبية باغتيال صالح العاروري، ثم تفجيرات كرمان في إيران وتوقيتها، وأخيراً في العراق، واغتيال قيادي من النجباء والحشد الشعبي، الذي استُهدف أمريكياً، وهذا ينذر بتوسع أصداء الحرب، وبقائها مفتوحة، ومتوترة، على أكثر من مستوى، وله حسابات كبرى أخطر من الحرب المباشرة على الشعب الفلسطيني، التي لم تحقق سوى الدمار، وقتل المدنيين.

المرحلة المقبلة تتطلب أن تكون لدى الادارة الأمريكية خلفية عسكرية ورؤية واضحة خوفاً من اتساع رقعة الحرب، وتفجير الجبهة اللبنانية، فترسانة حزب الله هي الحالة الأكثر خطورة على الدولة العبرية، ونصيحة جو بايدن للجنرالات الإسرائيليين، (إياكم أن تفتحوا بأيديكم أبواب الجحيم)، خاصة أن المأزق الإسرائيلي السياسي، والعسكري، يزداد حدة يوماً بعد يوم. وإسرائيل تشهد أزمة طاحنة غير مسبوقة، وأمام مفترق وجودي، الانشقاقات الداخلية من جهة، وفشلها في القضاء على المقاومة الفلسطينية في غزة من جهة أخرى، وهي لا يمكن أن تنفرد باتخاذ قرارات استراتيجية دون الرجوع لأمريكا، وخاصة أن التنسيق العسكري، والأمني، بينهما قائم على قدم وساق، وفي الأغلب، أنها على دراية كاملة بالهجمات الإسرائيلية ضد قيادات حماس في الضاحية الجنوبية، والتفجيرات في إيران، رغم نفي واشنطن تورطها فيها، ومع ذلك تسعى إلى تهدئة التوتر بين إسرائيل وحزب الله، وتهيئة إسرائيل إلى استيعاب أيّ ردّ لحزب الله، بعد إعلان حسن نصرالله (أن عملية اغتيال العاروري لن تبقى دون عقاب)..

جرائم إسرائيل باتت عبئاً على واشنطن، ومحرجة لها أمام المجتمع الدولي، والرأي العام العالمي، لأنها بتشجيعها تلك الجرائم، والمشاركة فيها أحياناً، تكرس نفسها دولة تنتهك حقوق الإنسان والقوانين الدولية، وهي لطالما تذرّعت بالتدخل الانساني، لتبرير تدخلها في شؤون دول أخرى في العالم وانتهاك سيادتها، وفوق ذلك نكران الجميل الذي جاء في التصريحات الاستفزازية لإيتمار بن غفير وسموتيرتش، فضلاً عن الانتخابات التي تلوح في الأفق. والمحاولات الأمريكية للحفاظ على علاقاتها مجدداً مع دول عربية حليفة، وامتصاص غضبهم من عدم توقف الحرب حتى الآن، رغم علمها بأنها لن تخسرهم تماماً، بسبب حاجة كل طرف للأخر، والعلاقة الاستراتيجية القديمة جداً بينهم، وربما تكون أكثر ارتهاناً للولايات المتحدة الأمريكية، كضرورة للبقاء لذلك نجد الادارة الأمريكية صارت تضغط لوقف الحرب.

مناقشة مرحلة ما بعد الحرب، التي تطرحها إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، بعيداً عن الطرف الفلسطيني، هي افتراضات إسرائيلية، فإسرائيل تفترض وتضع خططاً، وعلى العالم أن يصادق عليها، ويقبل بها، لا سيما، أن هذه الخطط لا تتطرق إلى مستقبل القضية الفلسطينية، بل وتقزم تطلعات الشعب الفلسطيني، وتكرس فصل غزة وتبقيها تحت الهيمنة الإسرائيلية، ومن الغباء السياسي لنتنياهو طرح قيادة مدنية، إسرائيلية بثوب فلسطيني، فالرفض الشعبي لأي صيغة تمثيلية عبر الاحتلال، هو أقل بكثير من سقف المستوى السياسي الوطني الفلسطيني، وخاصة بعد أن وصلت فلسطين وقضيتها وتمثيلها السياسي في العالم إلى الحدود العليا.

وفي مقاربة بين الربح والخسارة للحرب، نجد أن إسرائيل خاسرة بكل المقاييس، بعد أربعة أشهر وفشلت في تحقيق أهداف الحرب، وغزة منتصرة، رغم كل الآلام، بصمودها أمام أعتى جيوش العالم، وأمام الترسانة العسكرية الأمريكية والغربية. فلولا التغطية اللوجستية الأمريكية والغربية لإسرائيل، لشهدنا انهيارها، فإسرائيل التي تحاول أن تدفن غزة تحت الأنقاض، هي أيضاً تحت الأنقاض. يسترجعني إدوارد سعيد عندما وصف اللاجئين: (هم أكبر حجماً، وأكثر إثارة للمتاعب، من أن يظلوا مجموعة من اللاجئين لا تثير سوى العطف).

يبدو أن لعنة العقد الثامن ستنزل بإسرائيل، فالمؤرخ بيني موريس يقول: (أن إسرائيل مكان ستغرب شمسه، وسيشهد انحلالاً، أو غوصاً بالوحل)، فجيشها مرهق، وجنودها مرعبون. إسرائيل الكيان المصطنع، الذي قام على العنف والإرهاب، وبدعم قوي من المجتمع الدولي، فلولا أمريكا ما كان بالإمكان أن توجد، تدعم سياساتها وتغطيها، إسرائيل على أبواب حرب داخلية ستبدأ بإقالة نتنياهو، ومقاضاته مع كبار المسؤولين في حكومته بسبب فشلهم في تحقيق أهداف الحرب، وتضليل الرأي العام، وعدم الاستقرار الداخلي، الذي أدى إلى هجرة عكسية لما يقارب مليون ونصف مليون إسرائيلي مزدوجي الجنسية، بلا عودة، بسبب الحرب في غزة، وبذلك صدقت نبوءة إدوارد سعيد عندما قال: (إسرائيل ليست مجتمعاً حقيقياً بل هي شبه دولة، زمنها محدود، ومواطنوها موجودون فيها إلى أن يصيبهم الذعر فيضطرون لمغادرتها).

فالحروب لا تصنع المقابر، إنما تصنع التاريخ، لا استقرار في المنطقة، دون حل حقيقي وعادل للشعب الفلسطيني، فإما يكون الأمن والسلام للجميع، أو لا أمن ولا سلام لأحد.

العدد 1105 - 01/5/2024