جذور البنية الفوقية للعقل الأمريكي

د. صياح فرحان عزام:

من الملاحظ أن البنية الفوقية للعقل الأمريكي لها سماتها الخاصة، فهي ترى المنطقة العربية من علياء غرورها على أنها مجرد مشكلة صغيرة، والسؤال الذي يطرح نفسه في هذه الأيام، كيف أصبحت هذه المشكلة الصغيرة أكبر مشاكلها رغم مخططاتها التي سعت منذ أن غادر الاستعمار الأوربي إلى ترسيخ استعمار جديد ثقافي وحضاري يمتد من أوربا إلى العالم.

أمريكا التي كانت ذات يوم مستعمرة بريطانية حكمت أوربا كلها يوم قيدتها بالديون المتراكمة بعد الحربين العالميتين، وتوسعت، وهي الدولة الحديثة، لتصبح من أكبر الدول وزعيمة العالم الذي توجت نفسها عليه يوم حسمت الحرب العالمية الثانية بقنبلتين ذريتين ألقتهما على هيروشيما وناكازاكي، وبقيت في فوقيتها لا تحسب عدد الضحايا والمصائب التي تتسبب بها للآخرين، بل تحسب مكاسبها، وهذا العالم غير القادر على تسديد ديونه بات تحت هيمنتها.

قصتها، هي قصة الدولة العظمى التي ما إن جاء عام 1991 وانهار الاتحاد السوفييتي حتى استعدت لتكريس نفسها الزعيمة الأولى عالمياً دون منافس، إنها البلاد الجديدة التي لم يكن يعرفها أحد قبل عام 1492، عندما اكتشفها الرحالة الإسباني كريستوفر كولومبس، حيث كانت مأهولة بسكانها الأصليين الهنود الحمر الذين وقفوا مذهولين أمام هذا الهجوم من الهجرة المنظمة التي استولت على أرضهم وأخضعتهم لسيطرتها بالقوة واستبعدتهم وأمنتهم في نهاية المطاف.

إذاً.. من هنا، من احتلال وقمع لأصحاب الأرض الحقيقيين والأصليين بدأت تتكون البنية الفوقية للعقل الامريكي الجديد، ورغم تمكن بريطانيا عام 1664 من ضم أمريكا إلى مستعمراتها، استطاعت أمريكا بحجومها وتطلعها إلى التوسع أن تحصل على استقلالها عام 1883، ثم اندلعت الحرب الأهلية الأمريكية التي استمرت خمسة أعوام وكانت أعنف نزاع مرّ على الولايات المتحدة، وانتهت بانتخابات فاز فيها مقترح (الاتحاد) فكان (اتحاد الولايات المتحدة الأمريكية) الذي كرس البنية الفوقية لهذا العقل الذي يسعى للسيطرة على العالم.

ومع مرحلة القرن العشرين، بدأت مرحلتها الذهبية، كان اندلاع الحرب العالمية الأولى فرصة وجدت فيها ضالتها المنشودة، فهي لم تدخل الحرب عسكرياً في البداية، أما اقتصادياً فكانت اللعبة التي أتقنتها.

فمنذ الأيام الأولى للحرب، حرصت على تقديم الدعم لفرنسا وبريطانيا ومنحهما القروض التي اعتبرت من أكبر القروض في التاريخ. وفي عام 1916 اشترت بريطانيا معظم حاجاتها من الولايات المتحدة التي كانت تجيد استغلال المواقف، وذلك بأن تبيعهم منتجاتها لتزداد ثراء، في حين تزداد الدول الأوربية حاجة إليها.. وهكذا كان العقل الأمريكي يؤسس بنيته الفوقية، يقدم العون باليمين، ويأخذه أضعافاً مضاعفة باليسار من المبيعات، وهذا ما أدى إلى ازدهار الاقتصاد الأمريكي، علماً بأن الحرب العالمية دمرت نصف العالم من دون أن تتأثر أمريكا برصاصة واحدة.

وفي عام 1921 عُقد مؤتمر واشنطن البحري لنزع السلاح الذي ظهر فيه للمرة الأولى الثقل الأمريكي بتعاليه وعجرفته وتفوقه، فقد أصبح نصف العالم مديناً له، وجلست أمريكا على عرش العالم مشكّلةً (نقطة ارتكاز النظام المالي العالمي).

ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية، عادت إلى السيناريو ذاته، فبعد هذه الحرب خرجت أوربا ضعيفة ومنهكة ومدمرة، بينما أمريكا المنتصرة تتباهى بقوتها، حتى كان انهيار الاتحاد السوفييتي، فكرّست نفسها القوة العظمى الوحيدة، وبات العقل الأمريكي يقود العالم مالياً وعسكرياً واقتصادياً.

لقد رسم العقل الأمريكي المصاب بالفوقية الملامح التي يريدها للعقل العربي من خلال سعيه لإبهار العقل العربي بالثراء المالي والتكنولوجيا المتطورة، وهو في بداية انفتاحه على العلم والمعرفة والكتب والتعليم بعد تحرره من الاستعمار الأوربي، بمعنى أن أمريكا كانت تنظر إلى العرب على أنهم مجرد عقول وعيون طيعة ولينة تتقبل بسهولة ما تقدم لها أمريكا، وسعت في الوقت نفسه إلى تأسيس إمبراطورية ثقافية وإعلامية مع العمل على الترويج لحضارتها وقيمها ومنتجاتها الاقتصادية والإعلامية، وهذا كله ما ساهم في اختراق العقل العربي.

واليوم تقف أمريكا أمام العالم مرتبكة خائفة من التقدم التكنولوجي الصيني الزاحف دون توقف أو إبطاء.

الخلاصة.. على خلفية هذه البنية الفوقية للعقل الأمريكي، تقف واشنطن هذا الموقف المخزي في دعم العدو الصهيوني حتى إنها استخدمت الفيتو ضد مشروع قرار لوقف إطلاق النار في غزة.

 

العدد 1104 - 24/4/2024