الفساد وباءٌ يغتال أمن السوريين ومعيشتهم

إيمان أحمد ونوس:

احتفلت الأمم المتّحدة في التّاسع من كانون الأول الجاري باليوم العالمي لمكافحة الفساد، كما احتفلت في العاشر من الشهر ذاته باليوم العالمي لحقوق الإنسان. وهنا، أتساءل: ألا يحقّ لنا الشعور بأن تتالي المناسبتين فيه عبرة غير مرئية ربما، وهو في الوقت ذاته يحمل في طيّاته مفارقة غير بريئة من حيث أن الفساد لا شكّ يغتال كل الحقوق مهما كانت بسيطة، بينما حماية الحقوق وصونها وممارستها بكل حرية تحمي البلاد والشعوب من أخطر آفة تغتال الحق والعدل والكرامة؟

سلّطت احتفالية اليوم العالمي لمكافحة الفساد لعام 2023 الضوء على الصلة الوثيقة بين مكافحة الفساد والسلام والأمن والتنمية. فجوهر تلك الصلة هو فكرة أن التصدي لهذه الجريمة حق للجميع ومسؤولية عليهم، وأن هناك دوراً للدول وللمسؤولين الحكوميين ولموظفي إنفاذ القانون وممثلي وسائل الإعلام والقطاع الخاص والمجتمع المدني والأوساط الأكاديمية وللشباب بصورة خاصة في توحيد العالم ضدَّ الفساد.

الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس كان قد وصف الفساد في تغريدة له على تويتر: (الفساد يعني خيانة الشعوب واستنزاف مواردها ويؤدي إلى إضعاف الديمقراطية. يجب علينا أن نُسلّط الضوء على حاجة العالم إلى التكاتف من أجل القضاء عليه وتحقيق العدالة والمسؤولية المطلوبة).

بالتأكيد، يمكن القول إن الفساد ظاهرة عالمية ولا تقتصر على مجتمعات أو بلدان دون غيرها، وهو كما وصفه أحدهم: (ظاهرة اجتماعية واقتصادية وسياسية مُعقّدة تؤثّر على جميع البلدان باعتبارها تشمل جميع الاختلالات التي تمسُّ الجانب الاقتصادي، والسياسي، والأخلاقي، والاجتماعي لأي دولة، وتعوق عملية التنمية، وعليه فإن الفساد يقوّض المؤسسات الديمقراطية ويُبطئ التنمية الاقتصادية ويساهم في عدم الاستقرار الحكومي، لأنه يهاجم أسس المؤسّسات الديمقراطية من خلال تشويه العمليات الانتخابية، إضافة إلى تحريف سيادة القانون وخلق مستنقعات البيروقراطية. وبالتالي، فإن عملية التنمية الاقتصادية ستعاني من التقزّم لأنه من المستحيل التغلّب على (تكاليف البدء) المطلوبة).

فإذا ما تمعّنّا جيداً بهذا الكلام، ألا نجد أنه يتطابق والواقع في المجتمع السوري اليوم، في ظلّ استشراء هذا الفساد وعلى كل المستويات والاتجاهات الفردية والعامة؟ لاسيما أنه ترك الغالبية العظمى من السوريين تحت خطِّ الفقر بدرجات غير مسبوقة عالمياً، وبالتالي فإنه وعبر قادة الفساد وأمرائه المتحكّمين قد اغتال أبسط حقوق الناس في العيش بكرامة تليق بأدنى حدود إنسانيتهم، تلك الحقوق التي يُحتفل بها في اليوم التالي للاحتفالية العالمية لمكافحة الفساد، والتي تحمل هذا العام شعار: (الكرامة والحرية والعدالة للجميع).

فهل يتساوى السوريون في الكرامة والعدالة والحرية رغم أنهم يمتلكون العقل والوجدان الذي فرض عليهم التصدي لأبشع وأفظع حربٍ قذرة، لم يكن لهم فيها ناقة أو جمل، لكنهم تحمّلوا وزرها فقط لأنهم اختاروا التصدي لها والبقاء في وطن كانوا يرونه من حقهم ليحفظ كرامتهم من التشرّد واللجوء والنزوح الذي طال الملايين، لكن الفساد الذي عمّ مزهوّاً ممتطياً صهوة الوطنية التي قادها تجّار الحروب والأزمات، وفاقدو الضمير ممّن أثروا فجأة على حساب دماء ودمار السوريين قد حرمهم ليس فقط كرامتهم، بل أبسط حقوقهم في لقمة العيش وحبّة الدواء وبعض الدفء في شتاء قاسٍ لا يرحم. أولئك السوريون الذين أرادوا فيما مضى أن يضطلعوا بدورهم في محاربة الفساد وحماية حقوقهم في الأمن والسلام والتنمية المطلوبة للنهوض بواقعهم وبلدهم، كان جزاؤهم حرباً شعواء عبثية اغتالت بهمجيتها وما رافقها من فساد داخلي وخارجي جميع حقوقهم.

لقد ساد الفقر والجوع والبطالة غالبية المجتمع السوري، بما يُمثل أفظع الانتهاكات لحقوق الإنسان الأساسية، وبالتالي ساد انعدام الأمن الغذائي والصحي بما يجعل من السوريين أشباه بشر يمضون في الحياة لأنهم وجدوا أنفسهم فيها لا أكثر. إن السبب الرئيسي لهذه الانتهاكات هو عدم رغبة أصحاب القرار أو عدم امتلاكهم القدرة والإرادة الحقيقية لمعالجة الأسباب الجذرية الداخلية الكامنة وراء نشوب تلك الحرب، وبالتالي استمرار التمترس بالنهج ذاته من عدم الاكتراث لمعاناة الناس المستمرة والمُتفاقمة منذ ما قبل الحرب وحتى اليوم، إضافة إلى دعم واستمرار تفشّي الفساد الذي ساد فشمل المجتمع برمته عبر سيادة ثقافة الجشع والانتهازية والأنانية بحكم انعدام الحيلة والقدرة على تلبية أبسط الحقوق والاحتياجات الأساسية التي اغتالها فساد الهيئات والدوائر الأعلى.

إن السوريين اليوم بحاجة ماسّة لمن ينقذهم ممّا هم فيه، وهذا غير ممكن إلاّ بحلٍّ عادل ووطني للأزمة السياسية المُستعصية، عبر حوار سوري- سوري وبعيداً عن الأجندات والمصالح الدولية القائمة أساساً على استمرار خرابنا ودمارنا وتمزيق البلاد إلى كانتونات تخدم تلك المصالح.

فهل هذا كثير على السوريين الصامدين منذ سنوات في وجه أشنع الحروب وأفظعها.. ومثلها حرب الفساد وطغيان حيتانه الذي اغتال أبسط مقوّمات وجودنا؟؟

العدد 1104 - 24/4/2024