من بانة إلى نور وآلاء… أكاذيب لا تنتهي!

 يعتبر (الرأي العام) من الظواهر الاجتماعية الفريدة، التي جذبت إلى دراستها المفكرين منذ القدم؛ ففي الفلسفة الطاوية أتى ذكر (عدم استثمار المشاعر وأمزجة الناس في الحكم) كأحد الأسباب الأربعة التي تسهم في موت الدولة. ولقد كانت دراسات عالم القانون والفيلسوف الإنكليزي (جيرمي بنثام)، الذي عاش بين عامي 1748-،1832 من أوائل المحاولات البحثية التي أشارت إلى أهمية الرأي العام كوسيلة للمراقبة والتأثير في عمل الحكومة، كما بيّن الدور الرئيسي للإعلام في تشكيله وتغييره.

في عصرنا الحالي، أصبح تشكيل الرأي العام أو تغييره حيال قضية معينة من التكنولوجيات السياسية الرئيسية والفعالة، التي تتبعها المنظمات والأحزاب والدول من أجل تنفيذ خططها والترويج لأهدافها؛ ولقد بقيت وسائل الإعلام الأداة الأكثر فعالية لإنجاز ذلك، وزاد عليها وسائل التواصل الاجتماعي على شبكة الإنترنت.

وهكذا، كما لا يخفى على أحدٍ، لم يعد يقتصر دور مواقع التواصل الاجتماعي على نقل المعلومات والأخبار وتبادلها، بل إنها تحولت إلى أداةٍ لقياس الرأي العام وتقييمه وتغييره أيضاً. ولقد انتشرت في الآونة الأخيرة الكثير من الشركات التي تقدم خدمات متعددة في مجال (القياسات المجتمعية)، المرتبطة بقضية أو موضوع أو فكرة معينة، أو منتج أو ماركة معينة أيضاً؛ إذ تساعد هذه القياسات رجال السياسة ورجال الأعمال على حد سواء في صناعة القرار ورسم الخطط المستقبلية.

في الواقع، تقوم آلية تغيير الرأي العام، أو المزاج العام، حيال قضية معينة أو منتج معين، على خلق مجموعة من (المؤثِّرات)، و(المؤثِّر) هو حساب ما على أحد مواقع التواصل الاجتماعي يهدف إلى جمع الناس حوله (أي تشكيل جمهور)، عبر بث المواد الإعلامية المختلفة، كالمقالات والصور ومقاطع الفيديو؛ ولا معنى، في هذه الحالة، للبحث في كون الحساب وهمياً أم حقيقياً أو الجهة التي تقف خلفه، بل لا بد من النظر إلى درجة تأثيره في الرأي العام فحسب.

ولكي نفهم أهمية هذه (المؤثرات) وآلية عملها، لا بد من الإشارة إلى نقطتين بارزتين في دراسة الأزمات:

1-تعتبر النفس الإنسانية مركز جميع التفاعلات والتأثيرات الناجمة عن العوامل المرتبطة بالأزمة، لذلك نلاحظ أن علم النفس قد حظي بالقسط الأكبر من الدراسة عند وضع أسس نظرية الأزمات، وبالتالي تزداد أهمية (المؤثر) بازدياد قدرته على إحداث التأثير في النفس الإنسانية، نظراً لأنها البؤرة الحقيقية لجميع التفاعلات.

2-يبني جميع الناس رؤاهم، وبالتالي قراراتهم وأفعالهم على نموذج إعلامي معين، إذ إن الأغلبية الساحقة غير حاضرة في موقع الحدث، بل تستقي المعلومات بطرق غير مباشرة (التواصل المباشر، وسائل الإعلام، مواقع التواصل… الخ).

بعد هذا التمهيد، الذي لا بد منه، سننتقل إلى دراسة (مؤثرين) في الأزمة السورية؛ وهما حسابان على موقع تويتر، أحدهما كان باسم طفلة (بانة العابد) نشط أثناء معركة تحرير حلب، والثاني باسم طفلين (نور وآلاء) كان ينشط أثناء معركة تحرير الغوطة.

ظهر حساب (بانة العابد) في شهر أيلول من عام ،2016 وهو حساب لـ (طفلة) عمرها 7 سنوات، بثّت هذه (الطفلة) بمساعدة (أمها فاطمة) الكثير من التغريدات باللغة الانكليزية حول المعاناة المفترضة، التي عاشها سكان مدينة حلب بسبب (قصف الطيران السوري والروسي).

لقد كان هذا الحساب نشيطاً جداً أثناء معركة تحرير حلب، وخلال فترة وجيزة أصبح في غاية الشهرة؛ فلقد استطاع أن يجمع حوالي 300 ألف متابع حول العالم؛ وجذب وسائل إعلام غربية كـ إن بي سي، وبي بي سي، وسي إن إن؛ وتواصل مع (بانة العابد) شخصيات فنية وسياسية كبيرة، أمثال مؤلفة مجموعة هاري بوتر جوان رولينغ، ووزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو؛ ولقد سمت صحيفة الواشنطن بوست (بانة العابد) بـ (آنّا فرانك(*)) العصر.

ومع تحرير مدينة حلب ودخول الجيش العربي السوري إليها، انتهت أسطورة بانة العابد، وتبين أن (بانة العابد الحقيقية) لا تتطابق مع المواصفات التي بثها ذلك الحساب؛ فـ (بانة العابد الحقيقية) لا تعرف اللغة الإنكليزية على الإطلاق؛ وفقاً لما أكّده صحفيون أتراك، التقوا بانة العابد في اسطنبول وأجروا حواراً معها، بثته قناة (روسيا-24) في شهر شباط عام 2017؛ وإلى هذه النتيجة نفسها كانت قد توصلت سابقاً صحيفة «الزمن» السويسرية في التحقيق الذي نشره الصحفي (أوليفييه بيرا) بتاريخ 6 كانون الأول 2016.

مع اقتراب معركة الغوطة بدأت تبرز على ساحات التواصل الاجتماعي، لا سيما تويتر، عدة حسابات جديدة، إلا أن أشهرها كان حساب باسم طفلتين (نور وآلاء)؛ يبث عبر هذا الحساب مواد إعلامية مختلفة باللغة الانكليزية تعبر عن المعاناة الافتراضية لسكان الغوطة، وتناشد العالم التدخل لإنقاذ الغوطة من (قصف قوات النظام السوري والروسي).

وعلى الرغم من أن حساب (نور وآلاء) لم يستطع الوصول إلى مقدار شعبية حساب (بانة العابد)، إلا أنه استطاع خلال فترة وجيزة جذب بعض وكالات الأنباء كـ (إي إن سي آ) الجنوب إفريقية و (أناضولي آجانسي) التركية؛ ويتابع هذا الحساب شخصيات صحفية مشهورة كـ (إليوت هيغينز) و (إيمان رابيتي).

في الواقع، بدأت ملامح تحرير الغوطة الشرقية ترتسم في الأفق، وستنكشف حقيقة حساب (نور وآلاء) في القريب العاجل، كما حصل في حالة (بانة العابد).

ختاماً؛ سيبقى أعداء سورية أسرى عوالمهم الافتراضية وخيالاتهم الفاسدة وأحلامهم الخائبة، فلقد عكفوا منذ بداية الأزمة السورية على رسم صورة مغايرة للواقع؛ فتقمصوا الأسماء والألقاب واحتكروا المصطلحات والنظريات، ومع هذا وذاك لم يتغير حالهم بل ازداد سوءاً؛ فلقد تنقلوا في عالمهم الافتراضي بين صور حساب (بانة) و صور حساب (نور وآلاء)؛ أما الصورة الواقعية، فقد رسمها، على الأرض، الأبطال في الجيش العربي السوري وحلفائه بتحريرهم مدينة حلب، وسيرسمها مجدداً بتحرير الغوطة الشرقية؛ وهذه هي الحقيقة الدامغة التي سيسجلها التاريخ، وكل ما عدا ذلك هو هراء!

****

(*) آنّا فرانك (1929-1945): هي فتاة ألمانية وأكثر الضحايا اليهود إثارة للجدل، وثقت أحداث الاحتلال النازي لهولندا بين عامي 1942-1944 خلال الحرب العالمية الثانية من مخبئها مع عائلتها في أمستردام.

العدد 1105 - 01/5/2024