هل يمكن الخروج من فخّ النفط إلى آفاق الاقتصاد المتنوع؟

يونس صالح:

طبقاً لما يقوله الجيولوجيون، فقد ظل النفط في باطن الأرض ملايين السنوات، كانت كافية لأن تتحول المواد العضوية إلى ذهب أسود، نستقبله الآن ونستنزفه.

وطبقاً لما يقول رجال الاقتصاد، فقد أصبح الحال غير الحال، بعد أن حدثت ثورة النفط عام (73-74)، وكما نذكر، فقد ارتفع سعر برميل النفط إلى أربعة أضعاف ما كان عليه قبل حرب تشرين الأول (أكتوبر)، ثم توالت الارتفاعات حتى بلغت في بعض السنوات ما يقرب من عشرة أضعاف ما كان عليه.

انفجرت الأسعار لبعض الوقت، وزادت العوائد، ولكن السؤال الذي يطرح، بعد نحو خمسين عاماً من ذلك التشرين الأول (أكتوبر)، ما الذي جرى على الساحة؟ ما هو الإيجابي وما هو السلبي؟ وهل كان النفط خيراً خالصاً، أم أنه خليط من الخير والشر، والفرص والمخاطرة؟

قد تكون الإجابة السريعة أن الدول النفطية العربية قد حققت خلال هذه الحقبة عدداً من النجاحات، وخصوصاً في مجال الخدمات والبناء، وزاد دخل المواطن لديها، وزاد استهلاكه وتحسن مستوى معيشته. وفي الوقت نفسه فقد حاولت بعض تلك البلدان امتلاك ذراع القوة، فنمت ميزانيات الدفاع حتى إن تقارير التنمية البشرية التي صدرت عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة قد سجلت أن النفقات العسكرية قد زادت بنسب كبيرة، وتجاوز المتوسط في كل من السعودية وعمان على سبيل المثال 1200 دولار، وهو ما يعادل مجموع دخل الفرد في الدول المتوسطة، يضاف إلى ذلك الاستثمار للفوائض خارج الوطن، وكلها تغيرات لا تخطئها العين.

وعلى الجانب الآخر كانت هناك متغيرات تثير القلق، فقد نشبت خلال هذه الفترة ثلاث حروب، اثنتان من أجل النفط، وثالثة موّلها النفط، ثم جاء ما أطلق عليه اسم الربيع العربي، وما لحقه من دمار في كل من سورية والعراق وليبيا واليمن وغيرها، كان النفط عنصراً من العناصر المحركة لما جرى في المنطقة، وقد أصابت شظاياه الجميع. لقد أصبح متوسط الإنفاق العسكري للدول العربي مجتمعة ضعف المتوسط العالمي، وكانت هذه النفقات تتزايد، خاصة في البلدان الخليجية.

هكذا كان الحال في مجال الإنفاق: استهلاك وتنمية وعسكرة.. وفي مجال الموارد أو العوائد كانت الهزة الكبرى، أو العنصر الثاني والحاسم من عناصر عدم الاستقرار.

كانت أسعار النفط بين صعود وهبوط، وكانت العلاقات بين المنتجين والمستهلكين بين شد وجذب، وبينما كسب المنتجون الجولة الأولى، كسب المستهلكون الجولات الثانية بمجموعة إجراءات كان من شأنها التراجع بالأسعار إلى حد يقل عما كان عليه قبل عام 1973 في بعض السنوات، وبالأسعار الحقيقية المقارنة بأسعار السلع الصناعية.

وإذا استخدمنا بعض الألفاظ الأدبية، فقد تعرضت حكومات الدول النفطية لظاهرة (الساخن والبارد.. المد والجزر.. الصعود إلى القمر والهبوط إلى قاع البحر).

إنها الهزات التي واجهت الجميع، فكان على الجميع أن يجيد السباحة ضد التيار، أو يجيد ما أسماه البعض (الإدارة في ظل الأزمات، أو الإدارة في ظل عدم اليقين).

كان السعر العالمي للنفط، مع تقلب الأسواق بين عرض وطلب، مفتاح السياسات الحكومية التي كان عليها أن تتعامل مع الموقف وتستجيب له.

لجأت بعض الحكومات إلى ضغط الإنفاق في سنوات انخفاض الأسعار، وكان ذلك هو الخيار الصعب، فعندما يتم بناء شبكة خدمات ومرافق، وعندما يتم الالتزام تجاه المواطنين بمجموعة خدمات تقدمها الدولة، فإنه من العسير التراجع عن ذلك، ولكن في بند الاستثمار كان التأثير الأكثر وضوحاً: تراجع الاستثمار، فأطلت مشكلة أخرى هي انخفاض نسبة النمو، وتزايد البطالة التي وصلت في بعض الأحيان في السعودية على سبيل المثال إلى 16%.. ولجأت بعض الدول النفطية، ولأول مرة بعد عام 1973، إلى الاقتراض سواء من الخارج أو من الجهاز المصرفي، وباتت ميزانيات الدول محل جدل سنوي، ومحل تجاذب بين أغراض مختلفة ومتنافسة، إنها الحياة إذاً فوق سطح صفيح ساخن، لا تكاد الأمور فيها تستقر حتى تأتي تأثيرات الخارج لتصنع صدمة هنا وصدمة هناك، أما السبب فهو الاعتماد على مصدر رئيسي واحد هو النفط، الخاضع لصراعات عالمية كبرى.

والسؤال: ماذا بعد؟ إن الجهد من أجل استقرار أسواق النفط بات ضرورياً، وخصوصاً بعد الحرب الأوكرانية الروسية، وهذا الأمر تسعى إليه الدول المنتجة (أوبك)، والصراع مازال دائراً وصولاً إلى السعر العادل، وبينما تحاول أوبك الاحتفاظ بأسعار تلبي مصالحها، تأتي التهديدات من جانب كبار المستهلكين خاصة من الولايات المتحدة التي قال مسؤولوها إنهم لن يسمحوا بأن تهدد أسعار النفط الاقتصاد الأمريكي.. والمعركة ماتزال مستمرة، ومن المتوقع أن يزداد التحدي في ظل ضيف جديد على سوق النفط هو الحرب الروسية الأوكرانية الذي يزداد تأثيره بصورة متصاعدة.

إن المتغيرات القادمة كثيرة، فهل يمكن الخروج من فخ النفط إلى آفاق الاقتصاد المتنوع والمتوازن في البلدان المنتجة للنفط في الخليج وعربياً؟ الجواب سيكشف عنه المستقبل.

العدد 1105 - 01/5/2024