باباجان غفوروف – مؤسس الدراسات الشرقية السوفييتية

(النور) خاص-  د.ابراهيم استانبولي: 

عقد في ٥ كانون الأول 2023، برعاية رئيس جمهورية طاجيكستان إمام علي رحمان، المؤتمر الدولي المكرّس للذكرى الـ١١٥ لميلاد المستشرق ورجل الدولة باباجان غفوروف وذلك وسط حضور شعبي كبير وبمشاركة ممثلين عن البعثات الدبلوماسية في دوشانبي وباحثين من فرنسا وإيران والصين وباكستان وسورية (إبراهيم إستنبولي)

لن نبالغ إذا قلنا إنَّ باباجان غفوروف هو أعظم مستشرق نجح في نقل علم الاستشراق السوفياتي إلى مستوى جديد وأدخل فهماً جديداً في العالم لتاريخ طاجيكستان ولنشوء الشعب الطاجيكي.

وقد أصبح اسم باباجان غفوروف رمزاً لحقبة كاملة، وبات اسمه مقترناً بالتاريخ المعاصر للشعب الطاجيكي. وكل من يعرف الحدّ الأدنى عن طاجيكستان وعن تاريخه يعرف اسمه. إنه ممثل جدير للشعب الطاجيكي. ويحق لكل مواطن طاجيكي أن يفتخر بوجود مثل هذا العالِم ورجل الدولة في وطنه.

أكثر ما برزت الصفات القيادية كسياسي وكباحث عند غفوروف عندما استلم إدارة معهد الدراسات الشرقية التابع لأكاديمية العلوم الروسية، وهو أكبر مركز في الاتحاد السوفييتي يدرس بلدان وشعوب آسيا وشمال إفريقيا. لقد كانت مساهمة العالم ورجل الدولة غفوروف في تطوير المعهد جوهرية لا تقدر بثمن.

كان مركز الدراسات الشرقية فرعا ناشئاً وجديداً في الاتحاد السوفياتي، مع عدد محدود من العاملين والباحثين. ومع خبرة متواضعة جدّاً إذا ما تمت مقارنتها مع خبرة الاستشراق الغربي. نعم، لقد كان المركز العلمي ضعيفاً للغاية بحلول منتصف الخمسينيات من القرن الماضي. وهذا ما أشار إليه الأكاديمي ريباكوف: كان الناس يقولون (لقد استيقظ الشرق، وحده معهد الدراسات الشرقية لم يستيقظ من سباته بعد).

كما أنَّ غفوروف نفسه الذي أصبح فيما بعد سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في طاجيكستان، أشار أكثر من مرة إلى المستوى المنخفض للمعرفة باللغات ولتاريخ بلدان الشرق بين المتخصصين.

من هنا كانت الحاجة ماسة من أجل إعادة بناء الدراسات الشرقية السوفييتية ورفدها بالمزيد من الكوادر وتأمين ما يلزم من احتياجات مادية. لذلك، راح غفوروف يعمل بحماس كبير وبوتيرة غير مسبوقة.

لم يكن قد مضى سوى عام واحد على تعيينه في رئاسة المعهد، حتى دعا إلى انعقاد المؤتمر الأول للمستشرقين في عموم الاتحاد السوفياتي وذلك في طشقند. ذلك المؤتمر الذي كان نقطة البداية لتبادل الخبرات والإنجازات بين المراكز العلمية في الاتحاد السوفياتي.

كما أولى العالم اهتمامه الخاص لمسألة الكادر في المركز. فارتفع عدد الموظفين في المعهد خلال السنة الأولى من عهد غفوروف من 185 إلى 338 شخصاً.

وبالتوازي مع ذلك، عمل كل ما أمكنه من أجل زيادة الدعم المالي للمعهد من قبل الدولة أيضاً. وهذا ما سمح للعلماء بالذهاب في رحلات عمل وبعثات استكشافية بشكل منتظم.

ثم كان تأسيس دار نشر متخصصة بالأدب الشرقي عام 1957 من أهم الإشارات التي تؤكد النظرة العميقة والبعيدة عند العالم ورجل الدولة غفوروف. فقد قامت الدار بنشر مخطوطات العلماء الروس والترجمات والأصول للمصادر التاريخية والأدبية. وما زالت دار نشر غفوروف تعمل حتى الآن في نشر الكتب والدراسات في مختلف مجالات الفكر والأبحاث الآسيوية والأفريقية.

لم يقتصر إنجاز غفوروف على تعزيز القاعدة العلمية لمعهد الاستشراق فحسب. بل جعل من المعهد نقطة استقطاب سياسي وفكري في الاتحاد السوفياتي. بحيث أنَّ كبار المسؤولين والوفود من الدول الآسيوية والأفريقية التي كانت تأتي لزيارة الاتحاد السوفييتي، كانت تقوم بزيارة المعهد حيث يعقدون جلسات حوار واتفاقيات تعاون.

لقد أثبت نفسه كمسؤول فطن وصارم، يعرف كيف ينزع فتيل الصراعات، (منظم نشيط وقادر)_ حسب شهادة البرفسور إيغور ميخائيلوفيتش دياكونوف؛ (حكيم شرقي_ حسب تيودر. وفي الوقت نفسه، كان قياديّاً صارماً من الرعيل الستاليني في الإدارة. يرى الأكاديمي ألباتوف V. M. Alpatov أن إدارة غفوروف هي أفضل فترة في تاريخ معهد الاستشراق. وفي عهد غفوروف، ظهر في المعهد عدد من الموظفين الشباب، وبضمنهم أولئك الذي كانوا مضطهدين ومسرحين من الوظيفة، وجرى إنشاء هيكل لغوي خاص لأول مرة – قسم اللغات، وبدأت رحلات المستشرقين السوفييت إلى البلدان قيد الدراسة، ودار نشر.

لقد دحض غفوروف في كتابه المرجعي (الطاجيك) النظرية القائلة بأن الطاجيك شعب (غريب، غير أصيل)، وأثبت علمياً أن تكوين الطاجيك كشعب حدث في العصور القديمة وفي أراضي آسيا الوسطى تحديداً.

وقد دعّم هذا الرأي التاريخي بمصادر مكتوبة عُثر عليها في ذلك الوقت، إضافة إلى البيانات المأخوذة من علم الآثار واللغويات والأنثروبولوجيا ومن العلم المختص بسكّ العملات وغيرها من العلوم.

يعد كتاب (الطاجيك) طفرة في الدراسات الشرقية، وكذلك في الوعي الذاتي التاريخي للطاجيك أنفسهم، الذين رحبوا بالكتاب بحرارة.

وهذا ما أشار إليه العالم الطاجيكي الشهير محمد جان شاكوري: (لقد اكتسب عمل الأكاديمي باباجان غفوروف (الطاجيك)، الذي نُشر عام 1972، شهرة واسعة وبسرعة.

قام باباجان غفوروف، الذي جمع بين الأنشطة السياسية والأنشطة العلمية، بإيلاء اهتمام أساسي لتطوير العلوم والثقافة والهوية الوطنية. وبمبادرة منه جرى افتتاح أول جامعة في طاجيكستان في عام 1948. كان افتتاح جامعة طاجيكستان الحكومية (الآن TNU) حدثاً عظيماً في الحياة العلمية للجمهورية.

كما كان راعياً للمواهب. وقد ساهم دعمه الشخصي في تحقيق نجاح كبير على الساحة العلمية والثقافية للعديد من العلماء والشعراء والكتاب الموهوبين.

عندما كان باباجان غفوروف السكرتير الأول للجنة المركزية للحزب الشيوعي في طاجيكستان، جرى إنجاز العمل الذي كان سيستغرق أكثر من عقد من الزمن. استُعيدت المؤسسات الصناعية التي كانت معطلة أثناء الحرب لأسباب مختلفة.

أختم بما قاله رئيس طاجيكستان إمام علي رحمان عن الأكاديمي باباجان غفوروف:

(لقد كان حقاً رجل دولة ذا نظرة أكاديمية، وأكاديمياً ذا تفكير حكومي. علاوة على ذلك، كانت حياته كلّها مثالاً للخدمة المخلصة والمتفانية لمصلحة العلم والشعب والوطن).

 

العدد 1105 - 01/5/2024