رأسمالية الأزمة: العالم غير صالح للحياة

صدرت أخيراً الترجمة العربية لكتاب المنظّر اليساري الإنكليزي كريس هارمان: Zombie Capitalism: Global Crisis and the Relevance of Marx (ترجمة غادة طنطاوي ومراجعة وائل جمال)، إلا أن دار المرايا للإنتاج الثقافي، ناشرة الطبعة العربية، اختارت تغيير عنوان الكتاب إلى (رأسمالية الأزمة: دراسة في الاقتصاد العالمي المعاصر). إذ إن مفهوم (الزومبي: الميت الحي) لا يستحوذ من كتاب هارمان إلا صفحات عدّة، على الرغم من أنه يشكّل الإطار النظري للكتاب كلّه.

يخبرنا الكاتب في مقدمته كيف أنه بعد أزمة 2008، بدأ الكلام عن (المصارف الموتى الأحياء)، أي مؤسسات مالية في حالة (غير فانية)، ولكنها غير قادرة على القيام بأي عمل إيجابي، بل تشكل خطراً على الجميع. ويذهب هارمان هنا للقول إن الرأسمالية ككل في القرن الـ21 هي بمثابة زومبي، من ناحية أنها (تبدو ميتة حينما يتعلق الأمر بإنجاز الأهداف الإنسانية والاستجابة للمشاعر الإنسانية، ولكنها تظل قادرة على طفرات مفاجئة في النشاط تسبب الفوضى هنا وهناك).

يحمل (الميت الحي) أو (الزومبي) دلالات أساسية لكيفية فهم ماركس للرأسمالية، إذ يقول في المجلد الثالث لرأس المال إنه يجب ألّا يُصوّر الإنتاج الرأسمالي وكأن هدفه الأساسي إنتاج السلع للاستهلاك، ولا إنتاج أدوات التمتع للرأسماليين، هدف الرأسمالية الوحيد هو استخراج فائض القيمة، وبالتالي الاستمرار في النمو وتوسيع حدود عالمها. يرى ماركس الرأسمالية كما يرى هيغل الفكر، مستقلة بذاتها وبأهدافها، لها منطقها الخاص الذي يتطلب وجود عمّال، بشراً كانوا أم غير ذلك. حتى أن ماركس يقول في الجرندريسه، إن وسائل العمل، بعد أن يتم تبنيها في عملية الإنتاج، تمرّ بتحولات عدة تنتهي في ذروتها إلى نظام آلي، هو بذروته يصبح أوتوماتيكياً، (قوى متحركة، تحرّك ذاتها) وأسماه (الأوتوماتون)، وهو مؤلف من أعضاء ميكانيكية وفكرية متعددة، حيث ينتهي دور العمّال بأنهم ليسوا إلا (وصلات وعي) في الأوتوماتون.

عالم الرأسمال ينقلب علينا

يتتبع هارمان تطور مفهوم (الاغتراب) على أيدي فيورباخ وماركس، ويعدّه جوهر (زومبية) مفهوم الرأسمالية لدى ماركس. فقد اعتبر فيورباخ في مؤلفه (جوهر المسيحية) أن الله هو مفهوم صنعه الإنسان لينسب إليه صفات وقدرات هي إنسانية في واقعها، جرّدها الإنسان ووضعها في إله بعيد، ثم ألّف أدياناً لتحدد جميع تفاصيل حياته وحدود معرفته، وبذلك، اغترب الإنسان عن جوهره وحقيقته. أخذ ماركس مفهوم الاغتراب من فيورباخ، ولكنّه اعتبر أن الأخير لم يكن مادّياً بما يكفي، ورأى أن الاغتراب لا يحصل على مستوى عملية تجريد وإبعاد للجوهر الإنساني نظرياً، بل عن طريق عملية إنتاج تجبر العامل على صرف طاقته في إنتاج سلع (غريبة) عنه، قيمتها مرتبطة بالجهد الذي بذله مباشرةً، ولكنها في ذاتها، كمنتج، غريبة عنه، مستقلة. ويشير ماركس إلى أنه كلّما صبّ العامل ذاته في العمل أكثر، فقر (عالمه الداخلي)، أي أصبح مجرد وعاء طاقة إنتاجية ذي وعي. ويقتبس هارمان من ماركس قوله في رأس المال إن (سيطرة الرأسمال على العامل، هي سيطرة الأشياء على الإنسان، سيطرة العمل الميت على العمل الحي)، وتذهب منتجات هذه العملية نحو هدف موحّد، هو مراكمة فائض القيمة، وتوسيع هذا الوحش الميت الحي، أي الرأسمال، عالمه، وبالتالي، استقلاليته عن البشر.

لكنّه ليس مستقلاً تماماً، ذلك لأن طبيعة تقدمه مرتبطة بما يجنيه الرأسماليون (الذي يعتبرهم ماركس في مرحلة ما عبئاً على الرأسمال) من أرباح. وبعد أن يشرح هارمان نظريات ماركس، ويناقشها في إطار النظريات النقدية تجاهها، وفي إطار قصورها عن فكفكة بعد الظواهر التي أتت بعد ماركس، يعود هارمان إلى موضوعه الأساسي، الاتجاه الذي تذهب فيه الرأسمالية اليوم. يقتبس هارمان من ماركس أن (الرأسمال لا يكترث بصحة العامل أو طول عمره، إلّا إذا أجبره المجتمع على ذلك، ويرد الرأسمال على الاحتجاج على التحلل الجسدي والعقلي والموت المبكر وعذاب الإفراط في العمل، بالقول: هل يجب أن ننزعج من هذه الأشياء التي تزيد من أرباحنا؟).

الفرق بين الرأسمال والرأسماليين

يعيد هارمان خفض ساعات العمل التي حاز عليها العمّال، على سبيل المثال، إلى السبب القانوني، أي التشريع من قبل الدولة، وقرار من الرأسماليين للتعامل مع ضغوط صراع تاريخي بينهم وبين العمّال، أو لحل أزمة اقتصادية. وبطبيعة الحال هذه هي الأسباب المباشرة لذلك، ولكن، كما يقول ماركس، إن (النظر إلى الأمور على نحو كلّي، يوضح أن ذلك لا يعتمد على إرادة أفراد رأسماليين جيدين أو سيئين (…) بل على قوانين الإنتاج الرأسمالي، التي تواجه الفرد الرأسمالي على أنها قوانين خارجية). وعلى الرغم من ذلك لا يجري التفريق بين الرأسمال في النظام الذي يمكن وصفه بالميت الحي، والرأسماليين الذين يعدّون جزءاً من المجتمع الذي يضغط على الرأسمال، في مقولة ماركس أعلاه.

في هذا الإطار، يعمل هارمان، في شرحه ومناقشته لأفكار ماركس وكيفية استخدامها اليوم، ثم في نقاشه أزمة 2008 الدائر منذ نشر الكتاب عام 2009، والذي يحاول فيه، على عكس أغلب اليساريين، الحد من أهمية القطاع المالي في إحداث الأزمة، باعتباره لا يختلف عما يحصل في جوهر النظام، معتبراً أن الأزمة هي نتيجة عولمة الرأسمالية على نحو غير مسبوق. كما يؤكد أن تاريخ الرأسمالية حافل بالأزمات. ويضيف إلى المخاطر التي أنتجها التوسع الرأسمالي، الأزمة البيئية ويسهب في شرحها على نحو تفصيلي. وينتهي الكتاب بدعوة للثورة والتحذير من أنه في حال لم يتحقق ذلك، فإن العالم سوف يصبح غير صالح للحياة لأغلب البشرية في العقود المقبلة.

في الخلاصة، فيما باتت الأمور، التي تطرق لها هارمان في هذا الكتاب، موضع نقاش وأبحاث عديدة، ولكنّه لا يزال يشكل مقدمة جيدة لنظريات ماركس وكيفية تعاطي الفكر الماركسي مع الأزمات الراهنة.

***************

* كريس هارمان، صحافي، وكاتب، وناشط سياسي إنكليزي، وعضو في اللجنة المركزية لحزب العمّال الاشتراكي. كان رئيس تحرير جريدة (Socialist Worker) ومجلة (International socialism)، وألف كتباً عدّة منها (أزمة الرأسمالية الجديدة: ماذا يقول الاشتراكيون؟)، و(كيف تعمل الماركسية).

العدد 1107 - 22/5/2024