تقنية أتوثانية

أحمد ديركي:

فيما مضى كان هناك من يتابع كل الأخبار، والأخبار هنا لا تتوقف عند حدود الأخبار السياسية المتعلقة بحدود جغرافية الوطن، بل كانت تتخطى الحدود وتصبح عالمية. كما أن الأخبار لا تتوقف عند حدود الأخبار السياسية المتعلقة بالشؤون السياسية للدول في كل أنحاء العالم، بل كان هناك متابعة للأخبار العلمية أيضاً.

لم يكن هذا في الأزمنة الغابرة، بل كان يحدث في الماضي القريب، حتى منتصف تسعينيات القرن الماضي. بينما اليوم مع توفر كل وسائل الاتصال السريعة في أي مكان في العالم، للأسف، أو لحسن الحظ، أصبحت متابعة الأخبار ليست بالشيء المرغوب، وما هذا الانقطاع إلا أحد مؤشرات الشرخ بين الأنظمة السياسية وشعوبها. كما أن متابعة الأخبار العلمية أصبحت شبه معدومة، وهذا مؤشر على تدني المستويات العلمية، حتى ضمن حاملي الشهادات العليا.

وما أجمل متابعة أخبار (المشاهير) وبخاصة الفنانين والفنانات، في كلّ حقول فن الغناء والرقص والتمثيل لا النحت والرسم وغيرها من الفنون الجميلة، ومحاولة تقليد نمط حياتهم بكل أشكاله. وأخبارهم تضج بها وسائل التواصل الاجتماعي في كل أنحاء العالم. ونِعم المتابعة لأخبار كهذه! ومع كل خبر جديد لهم تتغير الأزياء والأذواق والعبارات المستخدمة بالحديث وصولاً إلى السلوكيات العامة!

الفقر هنا ليس عذراً لعدم المتابعة، ولكنه عذر جميل لعدم متابعة الأخبار حتى العلمية!

في الزمن الماضي القريب اشتهر اسم ألبيرت أينشتاين، كواحد من أشهر علماء الفيزياء في العالم، كما اشتهر اسم شارلي شابلن كواحد من أشهر ممثلي العالم. وفي أحد الأيام سأل أينشتاين شابلن: لمَ نحن مشهورون إلى هذا الحد؟ فردّ شابلن بالقول: (مشهورون لأننا: أنت تتحدث ولا أحد يفهمك، وأنا أضحكهم)! رجلان عملا على تغيير صورة العالم وكل منهما حمل قضية وعمل عليها. ويبدو أن عالم اليوم بلا قضية سوى قضية ماذا ارتدت الفنانة فلانة، وماذا غنى الفنان الفلاني… يا لها من قضية مرهقة للتفكير وممتعة للاستهلاك!

حالياً إن سألت من فاز بجائزة نوبل للفيزياء، أعتقد أنك لن تجد سوى قلة قليلة تجيب، حتى ضمن من تخصص أو ما زال يدرس فيزياء! أما إن سألت من غنى أغنية (جاط الفواكه أنت الرمانة والتفاحة و…) فستجد ألفاً يجيبون من غنى هذه الأغنية.

فيزيائياً، لا فنياً، تقاسم 3 فيزيائيين جائزة نوبل لعام 2023. وهم بيار أوغستيني، وفرنك كراوزر وأني لهولير. لأنهم من خلال أبحاثهم استطاعوا إلقاء نظرة على عالم ما دون الذرة. أي عالم الإلكترونات والكوركات والنيوترونات و… وهو عالم غريب يصيب الإنسان بالهذيان عند الدخول في أعماقه.

فقد عملوا على تطوير تقنيات لإنتاج نبضات ليزر تدوم لأتوثانية فقط، وهي فترات أقصر بمليارات المليارات من الثانية. عندما ينظر إليها في مثل هذه الومضات القصيرة، فإن العالم يتباطأ. ويصبح خفقان أجنحة الطائر الطنان خفقات أبدية. حتى طنين الذرات المستمر يصبح بطيئاً، على مقياس الأتوثانية، ويستطيع الفيزيائيون الكشف مباشرة عن حركة الإلكترونات نفسها أثناء تحليقها حول الذرات، والقفز من مكان إلى آخر.

فما هي أتوثانية؟

واحد أتوثانية هو واحد على خمسة من الثانية، أو 0.000000000000000001 ثانية. إن عدد الأتو ثانية التي تمر خلال ثانية واحدة أكبر من عدد الثواني التي مرت منذ ولادة الكون.

عند قياس حركة الكواكب، فإننا نفكر بالأيام والشهور والسنوات. لقياس إنسان يركض مسافة 100 متر، نستخدم ثواني أو أجزاء من مئة من الثانية. ولكن عندما نغوص في أعماق العالم تحت المجهر، تتحرك الأجسام بشكل أسرع. لقياس الحركات شبه اللحظية، مثل رقصة الإلكترونات، نحتاج إلى ساعات توقيت ذات علامات دقيقة للغاية: الأتوثانية.

تقنية تكشف عوالم جديدة وتفتح آفاقاً جديدة في عالم الفيزياء وكل العلوم الأخرى، وعلى أمل أن لا تصل إلى عالم (فناني) اليوم، كي لا ينتجوا أغنية كل أتو ثانية!

لقد رحل أينشتاين وشابلن وبقي قلة من يذكرهم، وكذلك علماء آخرون مثل هيزنبرغ ونيل بوهر وفايمن و… علماء تركوا بصماتهم في شتى مجالات الحياة وما زال هناك من يسير على دربهم، لكن للأسف أصبحوا أقل شهرة بعد أن سلّع النظام الرأسمالي كل شيء حتى الإنسان والفن.

العدد 1104 - 24/4/2024