جدل الداخل والخارج

ذوقان شرف:

كلّما سمعت أو قرأت شيئاً، أو شاركت في نقاش يتعلّق بأزمتنا الكارثية، التي انفجرت في أواسط آذار 2011، وجَرفَتْ، بمجرياتها وتبِعاتها، بلادَنا وشعبنا إلى هذا الوضع المتدهور، وهذه المعاناة المتفاقمة التي عاناها وما  زال يعانيها اليوم ملايينُ السوريين_ تذكّرت وأعدت التذكير بمقولة أطلقها طيّب الذِّكر، د. طيّب تيزيني، منذ أكثر من ثلاثين سنة، في إطار مناقشة أسباب انهيار الاتحاد السوفييتي، وقد كثر، آنذاك، مَن عزَوا ذلك الانهيار، بدرجة أساسية، إلى (مؤامرة) إمبريالية كبرى، وكان البعض يضيف إلى هذه الإمبريالية الحقيرة المتآمرة: (صهيونية)، أو (ماسونية)، أو غير ذلك. وما يزال هذا الرأي، أو التحليل، إلى اليوم يلقى رواجاً، ويطرح مَن يتبنّونه حججاً ووقائع وآراء لإثبات صحة رأيهم هذا أو تحليلهم، ويتجاهلون أو يغضّون النظر عن جوانب خلل وترهّل في بنية الدولة السوفييتية، وفي السياسة والاقتصاد وغيرهما.

أمّا فحوى المقولة التي أشرت إليها للطيّب تيزيني، فهو باختصار: إن أيّ عاملٍ (أو فاعلٍ) خارجيّ لن يكون له أيُّ تأثير ما لم يجد خللاً في الداخل يتسرّب منه.

الأزمة مركّبة.. أساسُها داخلي

وهنا أودّ وأجد مناسباً أن أستعيد ملامح من تحليل الحزب الشيوعي السوري الموحد، عام 2011، لِما رآه البعضُ وما يزال يراه ثورة، ورآه بعضٌ آخر وما يزال يراه تنفيذاً لمؤامرة إمبريالية صهيونية رجعية، وهذا التحليل موجود في وثائق الحزب التي واكبت (الأحداث) آنذاك، ونُشِر معظمها على صفحات جريدة (النور) الأسبوعية التي كانت تصدر آنذاك ورقياً، فقد رأى الحزب أنها أزمة مركّبة، أساسُها داخليّ. ورأى أن الصيغة السياسية التي سادت في بلادنا عشرات السنين لم تعد تلبّي متطلبات شعبنا ولا متطلبات التطور. وذكّر بخطورة السياسات الاقتصادية المتّبعة وتبعاتها وانعكاساتها على الإنتاج والمنتجين والمستهلكين، وأكّد أنه ينبغي تلبية المطالب المحقّة التي رفعها المتظاهرون. وعلى هذا الأساس، حذّر الحزب آنذاك من استخدام العنف في التعاطي مع المتظاهرين، لأن العنف يولّد عنفاً مضادّاً، وحذّر من اعتماد الحل الأمني والعسكري، لأنه يقود إلى خراب سورية.

 

الأمل الذي أُجهِض

وقدّم الحزب، آنذاك، اقتراحات للخروج من المأزق، أبرزها الدعوة إلى حوار وطني، للتوافق على عقد اجتماعي جديد يرسم مستقبل سورية الديمقراطي العلماني. ولذلك شارك ممثلو الحزب، مشاركةً فعّالة، في (لقاء صحارى التشاوري- أواسط تموز 2011، برئاسة نائب رئيس الجمهورية) الذي كان مأمولاً منه أن يمهّد لحوار وطنيّ موسّع يشارك فيه ممثلو الطيف الوطني السوري، بأحزابه وقواه ومكوّناته… وللتذكير أيضاً لم يكن على الساحة آنذاك لا قوى مسلّحة ولا تدخّل خارجي، غير أن مَن لم تعجبهم البنود الثمانية عشر الواردة في توصيات لقاء صحارى التشاوري، أعلنوا، في اليوم التالي لصدورها، رفضَهم لها.. وانزلقت سورية شيئاً فشيئاً في الحل الأمني والعسكري.

ليست الغاية من هذا التذكير إيصال القارئ إلى أن (الحياة أثبتت صحة مواقف حزبنا)، وإن كنت وما زلتُ أرى أنها كانت صحيحة إلى درجة كبيرة، وأنها ما تزال تستحق أن تبقى أساساً يستند إليه الحزب في مواقفه وتحليلاته، وأن تُعاد صياغتها على ضوء المستجدّات، ولذلك لا أرى غضاضةً في أن أشير، في هذا السياق، إلى أن الحزب قد ابتعد، فيما بعد، إلى حدٍّ ما، عن جوهر هذا التحليل، أو لنقُل عن جوانب رئيسية منه، وإن كان ظلّ وما يزال متمسّكاً بالدعوة إلى حوار وطنيّ شامل.

 

القرار 2254.. وقصة الجكارة؟

في أعقاب (ربيع دمشق) عام 2001، كتب الرفيق دانيال نعمة في إحدى افتتاحيات (النور) ما معناه أنه إذا كانت الولايات المتحدة تدّعي أنها تعمل على نشر الديمقراطية في العالم، فهذا لا يبرّر لنا أن نرفض الديمقراطية، ولا أن نخوّن من يطالب بها، ولا أن نتّهمه بالعمالة، فليس منطقياً، ولا يصحّ سياسياً، ولا يليق بنا أخلاقياً أن نتصرف أو أن نحدّد مواقفنا على مبدأ (جكارة بالطهارة …!).

أضِف إلى ذلك أن سورية، على مدى تاريخنا الحديث، ظلت وما زالت متمسكة بالشرعية الدولية، ومنها قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وظلت وما تزال تطالب بتطبيقها، لأنها تؤكّد وتدعم حقوقنا المشروعة، ولنتذكّر أن سورية نالت استقلالها بنضال شعبها أولاً، ثم جاء القرار الدولي عام 1946 بإنهاء الانتداب. وأبرز قرارات الشرعية الدولية التي تتمسّك بها سورية تتعلّق بالقضية الفلسطينية، وبالجولان السوري المحتلّ، فهل نقبل على أنفسنا، اليوم، بغضّ النظر عن موازين القوى، أن نمارس ازدواجية المعايير، التي كنا وما زلنا ندينها عندما تمارسها غيرنا من الدول (الولايات المتحدة مثلاً)؟!

إذاً، التركيز على العامل الخارجي وحده، فيما يتعلق بأزمتنا الكارثية، لا يكفي وليس دقيقاً، فهو يطمس جنايات الحكومات المتعاقبة بحقّ الشعب، ويبرّر ضمناً، سواءٌ أراد مَن يفعل ذلك أم لم يُرِد، حالة الطوارئ والسياسات الاقتصادية لتلك الحكومات، التي أوصلت البلاد والعباد إلى هذا الوضع المأساوي، الذي يتفاقم يوماً بعد يوم..
ورغم أن العامل الداخلي هو أساس الأزمة، والفاعل الرئيسي فيها، فإن التركيز عليه وحده أيضاً، ليس دقيقاً، فهو يُغفل، عن قصدٍ أو غير قصد، تأثير العامل الخارجي، ويرى من الأزمة جانباً واحداً..

الخروج من نفق هذه الأزمة يقتضي أولاً أن تسود بين السوريين لغةُ الحوار، في الخطاب وفي السلوك والممارسة، وأن نبتعد عن التخوين ورشق الاتهامات بالتآمر، والعمالة، فهذا الخروج يهمّ السوريين جميعاً، ويجب ويُفضَّل أن يشارك فيه السوريون جميعاً، وهذا الخروج والمشاركة أيضاً حقٌّ لهم، ليس لأحدٍ أن يحرمهم منه، أو أن يحمّلهم منّة إشراكهم فيه.. بهذه الروح يمكن للسوريين أن يلتقوا في حوار وطنيّ شامل، يؤسّس لمستقبل سورية الديمقراطي العلماني، سورية التي تتسع لجميع أبنائها، ليعيشوا فيها أحراراً أعزّاء مرفّهين، يتمتعون بالكرامة وبحقوقهم، وبخيراتها وناتج عملهم، ففي سورية من الخيرات والثروات ما يكفيهم ويكفي أجيالهم القادمة.

العدد 1104 - 24/4/2024