قراءة في كتاب »سورية المقاتلة«(*) للسفير الدكتور رامي الشاعر

 عرفت وسائل الإعلام والأوساط السياسية والثقافية الروسية الكاتب الصحفي والإعلامي والدبلوماسي- السفير الفلسطيني السابق في موسكو الدكتور رامي الشاعر، من خلال سلسلة كبيرة من مقالاته ودراساته التحليلية، وبرامجه الإذاعية والمرئية، التي يقدمها بكثافة ودينامية وجاذبية للجمهور الروسي الشغوف جداً لمعرفة تفاصيل ما يحدث في منطقة (الشرق الأوسط) عموماً وفي سورية بوجه خاص. وهو الخبير الحقيقي في شؤون المنطقة، إضافة إلى غوصه في الحياة السياسية والدبلوماسية والثقافية والاجتماعية الروسية، حيث يعيش ويعمل بهمة ونشاط لافت في أوساط النخب العسكرية والدبلوماسية والإعلامية الروسية منذ مطلع السبعينيات في القرن الماضي إلى اليوم.

بناء على إلحاح أصدقائه وزملائه ومعارفه الكثر، وبغية إجلاء عدد من المسائل والنقاط المبهمة أو غير الواضحة تماماً لجمهوره الروسي الواسع، قرر السفير رامي الشاعر إصدار كتابه التحليلي- التوثيقي (سورية المقاتلة)، الذي يشكّل، برأينا، مساهمة مهمة جداً في كشف كثير من ملابسات الحرب على سورية، ودوافع الدعم الروسي الفعّال للدولة السورية والشعب السوري في مواجهة هذه الحرب المركّبة غير المسبوقة، على بلد عرف على مدى آلاف السنين كحاضنة للحضارة الإنسانية والسلام، والتعايش والتناغم بين مكوناته وشرائحه الاجتماعية والثقافية كافة.

ولهذا فإن المؤلف الذي عانى مع الملايين من أبناء شعبه الفلسطيني تبعات التشريد والتهجير الجماعي على أيدي الغزاة الصهاينة وداعميهم الإمبرياليين، منذ إقامة الكيان الصهيوني المسمى (إسرائيل) في عام ،1948 يدرك تماماً الأبعاد الخطيرة والمآلات الكارثية للحرب التي تستهدف تدمير سورية وتحطيم مؤسساتها وبنيتها المجتمعية المتشكلة على مدى قرون طويلة.

يخصص المؤلف الجزء الأول من كتابه للإجابة عن السؤال القائل: من يقف خلف الصراع في سورية؟ ويتبين من المتابعة والتحليل أن المحرك الأعظم للوقائع والأحداث التصادمية في سورية منذ البداية هو السياسة الأمريكية الهادفة للهيمنة على بلدان (الشرق الأوسط) ومجمل (رقعة الشطرنج الكبرى)- ص3.

والمعروف أن الولايات المتحدة والدول الغربية تزعجها منذ مدة طويلة السياسة المستقلة للقيادة السورية، التي تقيم في الوقت نفسه علاقات طيبة مع روسيا. وفي معرض استعراضه لتركيبة عدد ما يسمى (قوى المعارضة الثورية) وسلوكها، يشير المؤلف بدقة إلى ارتباطاتها المباشرة بالأجهزة الأمريكية والغربية. أما بالنسبة إلى المقاتلين في صفوف (الدولة الإسلامية في العراق والشام- داعش)، فقد أصبح معلوماً للجميع من هم، وكيف يجنّدون، وما الأعمال الفظيعة التي ارتكبوها باسم (الإسلام الصحيح) و (الجهاد) وغير ذلك من شعارات.

ثم ينقل عن المحلل السياسي الروسي المعروف (ميخائيل روستوفسكي) تساؤله عن أسباب عدم إمكانية تفاهم الغرب وروسيا بشأن خطة للتسوية السياسية الشاملة في سورية (ص22)، وإجابة (روستوفسكي) عن ذلك، بالقول: إن الرئيس بشار الأسد والقيادة السورية ليسوا ضد الحل السياسي للمشكلة، ولكن الحلف الأمريكي-البريطاني-الغربي، المحرّك للسعودية والفصائل الممولة من قبلها يرفض مطلقاً الجلوس إلى طاولة الحوار، وبالتالي القصة ليست في روسيا وإنما في سورية الدولة الوحيدة في المنطقة القائمة على أسس علمانية، والتي تحارب فعلاً (داعش) والتنظيمات التكفيرية المماثلة (المحظورة أيضاً في روسيا). وفي ما يخص علاقة الغرب بروسيا، فقد ثبت أنه (أي الغرب) كان -وما زال- يأمل أن تكون روسيا مجرد دولة تابعة ليس لها سياستها ومصالحها ومواقفها المستقلة، التي تعكس موقعها الجيوسياسي، وقبل ذلك تاريخها الحضاري وشخصيتها القومية الخاصة، وبالتالي لن تكون بأي وقت من الأوقات عنصراً هامشياً أو تابعاً ملتزماً بخطط (الناتو) أو (المركزية الغربية) المدّعاة.

بشار الأسد ليس معمّر القذافي

يبدي المؤلف إعجابه الكبير بعدم قدرة عشرات أو حتى مئات المحاولات الغربية (لتركيع الشعب السوري)، متسائلاً عن مصادر قوة هذه الدولة، ويعزو ذلك إلى قدرة القيادة السياسية السورية منذ أيام الرئيس الراحل حافظ الأسد على استقطاب أوسع الشرائح الاجتماعية من جهة، وإعداد نخبة أو مدرسة نضالية متكاملة لإدارة البلاد ومواجهة شتى أنواع الأزمات. وقد استند الرئيس بشار الأسد إلى شعبه والقوى التقدمية العريقة في سورية، ومؤسسة الجيش المعروفة بتقاليدها الوطنية وتماسكها الكبير وانتمائها المباشر لمختلف شرائح المجتمع. ولهذا فإن المقارنة بين الرئيس بشار الأسد ومعمر القذافي غير صحيحة وغير واقعية، لاختلاف تركيبة المجتمعين وطبيعة القوى السياسية والنخب المؤثرة فيهما، والثقافة السياسية المتميزة في سورية.

توقعات النصر

وحول إمكانيات النصر السوري، يؤكد السفير الدكتور رامي الشاعر أن التدخل الروسي الفاعل والمؤثر، خصوصاً في ميدان القوى الجو-فضائية الضاربة، الداعمة للأعمال العظيمة للجيش السوري و(حزب الله) والقوات الشعبية الرديفة، تشكل عوامل أساسية في إحراز النصر على الإرهاب. ولدى المقارنة بين الموقفين الروسي (ممثلاً بالرئيس بوتين) والموقف الأمريكي الذي يجسّده الرئيس (ترامب) تبرز قوة الموقف الروسي وصلابته وتماسكه ومنطقيته، إذ حصل بطلب من الحكومة الشرعية السورية، على خلفية العلاقات التاريخية السورية-الروسية، بينما يتدخل الأمريكيون تحت عناوين عامة (مثل محاربة (داعش))، ضمن أجندتهم التقسيمية للدولة السورية، وأهدافهم الاستراتيجية الخاصة، التي يأتي في مقدمتها تحييد سورية في مسألة الصراع العربي-الصهيوني ودعم الشعب الفلسطيني لنيل حقوقه الوطنية المشروعة.

ولا يغيب عن تحليل المؤلف الترابط القائم بين مخططات أمريكا في سورية ومنطقة (الشرق الأوسط) وتحركات (الحلف الأطلسي) (الناتو)، الهادفة إلى تطويق روسيا، وإغلاق حلقة الحصار حولها لإجبارها على الخضوع والتنازل عن حقوقها ومصالحها الجيو-استراتيجية المعروفة، وتلاعب وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي وبعض الشخصيات والأحزاب الروسية الصغيرة في كثير من الحقائق والوقائع، متحولة بذلك إلى (طابور خامس) للقوى والتكتلات المعادية لروسيا، تحت شعارات وتسويغات واهية منافية للتاريخ والروح الوطنية والمنطق (ص47- 61).

في الجزء الثاني من الكتاب يحلل المؤلف ما يسمى (الربيع العربي)، بدءاً مما حصل في تونس، مروراً بمصر، التي شهدت قفز (الإخوان المسلمين) إلى السلطة (كما حدث تماماً في تونس) باسم (الثورة)، وتسليم دفة الحكم لرجل أمريكا الإخواني محمد مرسي. وبعد تتبعه لأحداث مصر اللاحقة وبصمات أمريكا الواضحة جداً فيها، يصل إلى استنتاج مفاده أن موجة الاحتجاجات والاستعراضات والشعارات وغيرها، كانت كلها بتوجيهات أمريكية وتلاعبات مدروسة بمشاعر عامة الناس وعواطفهم وتطلعاتهم لتغيير نظام (مبارك)، الذي لم يقدّم للشعب المصري غير الفئات الطفيلية النهبية والإذلال والجمود.

ويعرّج المؤلف في هذا السياق نحو اليمن، وتكرار المسيرات الاحتجاجية وشعار (إرحل)، والمبالغة الإعلامية الغربية بتسليط الضوء على أسماء معينة، مثل (توكل كارمان)، التي منحت جائزة نوبل العالمية، بوصفها (رائدة وقائدة) للربيع العربي (ص 65).

ثم يخصص مبحثاً لدراسة ما جرى في ليبيا، بعد إعطاء قرائه (الروس) خلفية عن تاريخ هذا البلد العربي، وصولاً إلى ثورة الفاتح من أيلول (سبتمبر) ،1969 وتسلّم معمر القذافي قيادة البلاد، مع لمحة عن التخبطات والأخطاء في إدارة أزماته الخارجية وعلاقاته العربية والدولية. لكن ذلك كله لا ينفي شعبية القذافي الليبية والعربية والإفريقية، التي لم تمنع (حلف الناتو) من التدخل المباشر في ليبيا بذريعة (منع القتل الجماعي للشعب الليبي الأعزل)، والطريقة المأسوية -الوحشية لتصفية القذافي، ومن ثم الاستيلاء (الغربي) على النفط الليبي المعروف بجودته العالية، وتحول ليبيا إلى كيانات متحاربة بعد تحطيم الدولة وتهشيم المجتمع الليبي، وإعادته إلى الصراعات القبلية والإثنية والجهوية وغيرها.

وقد حرص المؤلف أن يحدّث قارئيه الروس تفصيلاً عما جرى في العراق من مراحل مفصلية في تاريخه الوسيط والحديث والمعاصر، مروراً بالمسألة الكردية وإشكالاتها وتأثيراتها المباشرة على استقرار العراق وتنميته ووحدته الوطنية، ليصل إلى عام ،2003 الذي شهد الاحتلال الأمريكي-الغربي للعراق وإدارته خلافاً لشرعية الأمم المتحدة والقانون الدولي، وتحت ذرائع وحجج ثبت زيفها وكذبها (كامتلاك أسلحة الدمار الشامل وتهديد الأمن والسلم الدوليين..إلخ).

وفي عودته لبحث الموضوع السوري، يؤكد المؤلف مجدداً أن الولايات المتحدة الأمريكية وخلفها الدول الغربية موّهت أهدافها الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية تحت ستار (مكافحة الإرهاب)، لكنها في الواقع يسّرت ودفعت تركيا وغيرها لاستقبال آلاف الإرهابيين من شتى أنحاء العالم للدخول إلى سورية والعمل على تدمير مؤسساتها الحكومية والمدنية، وتحطيم ونهب أوابدها وآثارها التاريخية التي تعود إلى آلاف السنين. دون أن ينسى الاستقرار اللافت الذي شهدته سورية منذ تسلم حزب البعث قيادة الدولة والمجتمع منذ 55 عاماً، فقد شهدت البلاد تنمية اقتصادية وعلمية وصحية وخدمية غير مسبوقة، في إطار إيديولوجية قومية تحررية ترفض السير في ركاب القوى الاستعمارية، أو التنازل عن الحقوق وفي مقدمتها الأراضي العربية المحتلة. ولهذا جرى (إقحام الربيع العربي) في سورية، ليس بهدف إعادة مجدها كمركز للدولة العربية-الإسلامية الحضارية (أيام العهد الأموي)، وإنما لتحطيمها وتفتيتها وإرجاعها إلى ما قبل الدولة، بكل السبل والإجراءات، بما في ذلك عن طريق المواجهة المباشرة، لدى فشل التنظيمات والفصائل المسلحة في هذه المهمة الصعبة والقذرة.

يخصص الكاتب الجزء الثالث للمحادثات والحوار السياسي في سورية، مع حرصه على القول إنه لا يوجد أي بديل آخر للحوار والعملية السياسية لحل المسائل والمشكلات القائمة حالياً، والتي خلقتها أساساً الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون والإقليميون.

ويختتم السفير الدكتور رامي الشاعر مؤلفه الثري بمجموعة من مقالاته ودراساته المنشورة (بالروسية) في أعوام سابقة، والتي تتمحور حول القضية الفلسطينية والتعريف بالشعب الفلسطيني وتاريخه الحضاري والنضالي، والمشكلات الكبرى في منطقة (الشرق الأوسط)، وألاعيب (الناتو) وأكاذيبه، وإمكانية أن تشعل الولايات المتحدة حرباً خطيرة مدمرة في العالم، ودروس الرئيس بوتين (ص 313)، وغير ذلك من مقالات وتحليلات مهمة.

وإذا كان لا بدّ لنا من تعقيب أخير على كتاب السفير الدكتور رامي الشاعر، فإننا يجب أن نشكره ونحييه أولاً، لتمسكه بثوابت وقيم أمته ودفاعه القوي والعقلاني عن قضايانا المركزية في دراسة وتحليل الأسباب الفعلية للحرب على سورية، مراعياً تبسيط الأمور والنقاط المطروحة للجمهور الروسي العادي، الذي تتصارع وسائل الإعلام بمختلف اتجاهاتها من أجل جذبه أو حتى إدخاله في دائرة الشك والضياع والخوف تجاه انخراط بلده المباشر في الحرب الدائرة في منطقة (الشرق الأوسط)، سواء في مواجهة قوى الإرهاب، أو في التصدي للمخططات والأهداف الأمريكية- الأطلسية، القائمة على تحطيم الدول العربية الأساسية وفي طليعتها سورية، وتقسيمها وتفتيتها، وتطويق ومحاصرة الاتحاد الروسي – بقيادته الوطنية المستقلة- وإنهاكه وإجباره على الانكفاء والتقوقع والاستسلام مجدداً للغرب وهيمنته الأحادية، وثالثاً، إيمان المؤلف وقناعته التامة بحتمية الانتصار الروسي-السوري على قوى الإرهاب والتخريب والرجعية وأمريكا وحلفائها وأذنابها في المنطقة، مهما بلغت التضحيات، وإلى أي مدى يمكن أن يبلغه الصراع والمواجهات.

(*) موسكو: (برافدا-برس)، 2008)، 360 صفحة من القطع الكبير/ باللغة الروسية.

العدد 1105 - 01/5/2024