جوار ملتهب والعداء متأصّل

د. نهلة الخطيب:

مؤخراً شهدت العلاقات بين بولندا من جهة وروسيا وبيلاروسيا من جهة أخرى توتراً كبيراً إثر تمركز قوات فاغنر في بيلاروسيا، بعد تمرّد قائدها يفغيني بريغوجين على القيادة الروسية، مما دفع بولندا لتعزيز قواتها على الحدود، في ظل قناعة بولندية سابقة أن نقل قوات المجموعة إلى بيلاروسيا يهدف إلى زعزعة استقرار الجناح الشرقي لحلف الناتو وقد يصل إلى نشوب حرب جديدة تكون امتداداً لحرب روسيا وأوكرانيا، وقد حذر الرئيس الروسي بولندا من شن هجوم على بيلاروسيا معقباً بتصريحات استفزازية بأن المناطق الغربية في بولندا الحالية كانت (هدية من ستالين للبولنديين في نهاية الحرب العالمية الثانية)، وجاء رد البولنديين على لسان رئيس الوزراء ماتيوس مورافيتسكي (إن ستالين كان مجرم حرب ومسؤولاً عن مقتل مئات الآلاف من البولنديين خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها).

بعد موت بريغوجين قائد فاغنر قال رئيس الوزراء البولندي (إن وفاة بريغوجين تثير مخاوف كبيرة بالنسبة لوارسو على المستوى الأمني، ففي حال تمكن بوتين من السيطرة التامة على المجموعة وتنظيم نشاطها، فمن الممكن أن يشكل عناصرها الموجودين خطراً روسياً تجاه بولندا ودول البلطيق، وفي حال حُلّت المجموعة فإن ذلك سيطرح مخاطر عبر تسللهم إلى بولندا)، وطالب بيلاروسيا بطرد مجموعة فاغنر على الفور من أراضيها، في الوقت الذي تدرس فيه إغلاق الحدود مع بيلاروسيا، فهل المواجهة حتمية بين الجارين في ظل حشد عسكري وأمني من الجانبين؟

منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية بدأ الاعلام الغربي يتحدث عن قلقه من نوايا وارسو تحريك أطماعها التاريخية في مناطق غربي أوكرانيا استغلالاً لفرصة الحرب الدائرة، وعلى الرغم من الانعكاسات الوخيمة للحرب على المجتمع الدولي فإن بولندا قد تمكنت من تحقيق عدد من المكاسب التكتيكية والاستراتيجية منذ اندلاع الحرب وفرضت نفسها كقوة يمكن أن تعيد التوازن لدول حلف الناتو، وموطئ قدم ونقطة ارتكاز لمواجهة التهديدات الروسية في حال انتصارها في هذه الحرب وتمددها خارج حدود أوكرانيا، وعزز التدخل الروسي في أوكرانيا طرح بولندا وصدق مخاوفها من خطورة المشروع الروسي التوسعي وما يمثله من تهديد على دول أوربا الشرقية عندما قال الرئيس البولندي السابق في عام 2008: (اليوم جورجيا وغداً اوكرانيا )، في الوقت الذي وجده الغرب أنه طرح مبالغ فيه، وزادت الحرب الروسية الأوكرانية من أهمية بولندا لدى الدول الأوربية والولايات المتحدة الأمريكية بعد الخلافات التي ظهرت بينهم إذ كان ينظر اليها كنموذج للأنظمة الشمولية الصاعدة.

تعد بولندا إحدى أكبر دول الكتلة الشرقية السوفياتية، فيها تم توقيع معاهدة حلف وارسو مقابل حلف الناتو إبان الحرب الباردة وبقيت حتى عام 1989 مع بداية تفكك الاتحاد السوفياتي، وشكلت بولندا خط الدفاع الأول اتجاه روسيا التي دخلت حلف الناتو عام 1999 وفي الاتحاد الأوربي عام 2004، ولم يكن رد فعل بولندا وطريقة تعاطيها مع الحرب الروسية الأوكرانية سوى ترجمة حقيقية لموقفها الثابت من روسيا وتخوفها الدائم من تطلعات وطموحات بوتين الإقليمية، فكانت محوراً للتحركات الغربية لردع روسيا وكانت أول المندفعين لتطبيق سياسة الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوربي بفرض عقوبات اقتصادية قاسية على روسيا ومحاصرتها وفرض حالة من العزلة عليها، إضافة إلى دعمها لأوكرانيا اللامحدود فأصبحت أكثر دول أوربا الشرقية عداء لروسيا وأبرز داعمي أوكرانيا من حيث حجم المساعدات العسكرية واللوجستية عبر تدريب العسكري للمقاتلين الأوكرانيين واستقبلت ملايين الأوكرانيين اللاجئين، ودافعت عن أوكرانيا في المحافل الدولية، وأصبحت دولة عبور للمعدات الغربية إلى أوكرانيا وتأمين الأسلحة والمقاتلين، وذلك بسبب موقعها الجيوبوليتك فهي دولة تقع في أوربا الوسطى وهي منطقة فاصلة بين الشرق والغرب حيث تصل حدودها المشتركة مع أوكرانيا إلى 530كم، تحدها ألمانيا غرباً، والتشيك وسلوفاكيا جنوباً، وبيلاروسيا شرقاً، وبحر البلطيق وليتوانيا شمالاً، ولها حدود فعلية مع روسيا في جزيرة كالينينغراد التي تحيط بها كل من بولندا وليتوانيا وتطل شمالاً على بحر البلطيق.

التوتر بين بولندا وروسيا أزلي وتاريخ صراعات لا تنتهي، بدأت منذ القرن السادس عشر في حرب ليفونيا وطمع الدولة البولندية بضم أراضي روسية زراعية ومضاعفة قوتها الإنتاجية وزيادة نفوذها على مستوى أوربا والتي انتهت بخسارة روسيا، واستمرت الحروب بين الطرفين بشكل متقطع وتمت سيطرت بولندا على معظم أوكرانيا الحالية، انقلبت الموازين لصالح روسيا فربحت الحرب الروسية البولندية انتهت بتوقيع معاهدة تثبت سيطرة روسيا على أراضي واسعة عام 1667 مقابل هزيمة بولندا وحلفائها السويد والنروج. وتمكنت الإمبراطورية الروسية على مدى قرنين لاحقين المحافظة على هذا النصر وامتد حكمها ليشمل بولندا، ورغم محاولات بولندا الانتفاض ضد الروس متحالفة مع فرنسا إلا أنها تعرضت للتقسيم لثلاث مرات متتالية. إبان الحرب العالمية الأولى أعلنت بولندا استقلالها عام 1919، وعملت على إنشاء اتحاد فيدرالي مكون من دول شرق أوربا ليكون تحت قيادتها، ووصلت قواتها إلى كييف ولكن الجيش الأحمر أحبط تقدمها. تغيرت الحال بعد الحرب العالمية الثانية وتطبيقاً لقرارات القوى العظمى عام 1945 توسعت حدود بولندا بنحو 300 كم باتجاه الغرب، وكانت فترة هيمنة الشيوعية في بولندا اعتمدت كلياً على الاتحاد السوفييتي، ومع قرب تفكك الاتحاد السوفييتي انهارت الجمهورية الشعبية البولندية وتم تطبيع العلاقات مع روسيا الاتحادية عام 1991. تدهورت العلاقات مجدداً مع وصول بوتين إلى السلطة عام 2000، وفرضت بولندا حظراً على استيراد منتجات روسية واعترضت على خط نورث ستريم واعتبرته تهديداً لأمنها الطاقي.

أخيراً احتمال انضمام بولندا إلى الحرب مرتفع للغاية، ولكنها لن تبدأ بالخطوة الأولى بإعلان الحرب على روسيا وبيلاروسيا دون الدعم الكامل وموافقة من الولايات المتحدة الأمريكية، ويوجد احتمال أن تكون هذه التحركات والتدريبات بمثابة رسائل ردع ليس غير، ولكن قد يؤدي سوء الفهم إلى وقوع حادثة قد تثير شرارة الصراع بين الجانبين المتأهبين تكون ضحيتها أوربا الشرقية التي تعتبرها واشنطن وأوربا الغربية خارج العالم المتحضر ومواطنين ليسوا من الدرجة الأولى، الصراع عميق والحرب عملياً بدأت منذ انهيار الاتحاد السوفييتي وتفكيك حلف وارسو والحرب الدائرة في أوكرانيا ماهي إلا إعادة المواجهة بين روسيا والغرب إلى الواجهة مجدداً، وستظل العلاقات المستقبلية بين الطرفين الروسي والغربي خاضعة لظاهرة العداء المتأصل الذي يسود تصور العالم الغربي لروسيا، وستبقى هناك بعض الحروب المسموح بها سواء مباشرة أو بالوكالة ليتم إخراج مولود جديد يتقاسم العالم الذي سيتغير باتجاه استراتيجيات جغرافية جديدة، فلهذا نسمع طبول الحرب هنا وهناك لإعادة التموضع في الأسس الجديدة للنظام العالمي.

العدد 1105 - 01/5/2024