قطيعة مع التأثير

د. أحمد ديركي:

عند إصدار كتاب جديد مع التحضيرات الإعلامية المرافقة له، تضجّ به الوسائل الإعلامية وترتفع نسبة المبيعات، وإن لم ترافقه حملة إعلامية، من قبل أحد المتمولين أو دعم سلطوي، يبقى الكتاب مجرد إصدار جديد موزع على المكتبات إلى أن تباع منه بعض من النسخ أو كثير منها، وفقاً لأهواء القراء.

لكن حالياً هناك الكتاب الإلكتروني الذي يمكن الحصول عليه مجاناً، أو حتى يمكن شراؤه من الناشر أو أحد مواقع البيع الإلكترونية. كتاب لا يقل قيمة عن الكتاب الورقي، ولكن يحمل سيئاته وحسناته أيضاً. وقد تكون من أبرز سيئات الكتاب الإلكتروني هي عدم قراءته، وبخاصة إن كان مجانياً. فغالباً ما نقوم بتنزيل الكتاب ليحفظ على الكومبيوتر أو الهاتف فقط! والسيئة الأخرى تكمن في مسألة استيعاب ما قُرئ منه. نعم، فهناك كثير من الدراسات تفيد بأن القراءة من على شاشة إلكترونية تقلّل من نسبة استيعاب القارىء، لذا هناك العديد من محاولات تصحيح هذا الأمر بإنتاج أدوات إلكترونية متخصصة للقراءة!

بما أننا نتحدث عن عالم الكتب، يبدو أن العالم العربي ما زال في مرحلة ما قبل القراءة، إن كان في ذاك الموقع فكيف لنا أن نتحدث عن عالم الكتاب والقراءة؟

وفقاً لكثير من الإحصاءات العالمية ينتج العالم العربي أقل كمّ من الكتب الجديدة، فهناك إحصاء يقول أن العالم العربي برمته ينتج من الكتب الجديدة بقدر ما تنتج إسبانيا فقط! ونسبة القراءة لا تتعدى، كحد وسطي، خمس أو ستّ دقائق يومياً لكل مواطن عربي، مقابل أربع أو خمس ساعات لغير العرب! طبعاً من دون حساب مسألة القراءة في غير معناها، التحدث عبر الواتس أب أو الفيس بوك.. وما شابهها من وسائل التواصل الاجتماعي حيث يمكن أن تدور أحاديث وأحاديث لمدة طويلة، ومعظم هذه الأحاديث تجري كتابة ومع أكثر من شخص في الوقت نفسه. فنحن هنا نتحدث عن قراءة كتاب لا دردشات مضيعة وقت.

هناك مشكلة في العالم العربي مع الكتاب! مشكلة متعددة الأبعاد قد تكون واحدة منها عدم التأثر بالكتاب، ولكن لماذا؟

تكثر الكتب باللغة الاجنبية فتصدر صحف ومجلات، وهي أيضاً أصبحت شبه مفقودة في العالم العربي إلا صحف السلطة السياسية، تحاول في نهاية كل شهر عرض قراءة لكتاب صدر حديثاً، وفي بعض الأحيان تكون المسألة كل ستة أشهر، وفي النهاية العام تجري جردة لأبرز الكتب التي صدرت خلال هذا العام، ويتم تصنيفها اعتاداً على معايير متعددة. طبعاً هذا أمر شبه معدوم في العالم العربي ووسائله الإعلامية.

إضافة إلى هذه المسألة هناك أمر جميل في عالم الكتب، يحدث خارج عالمنا، يتعلق بمسألة محاولة تتبع أكثر الكتب تأثيراً على حياة الشعوب، فتصدر كتب مثل (100 كتاب غيّرت العالم) أو (أجمل تصميم للكتب في العالم).. وهنا جوهر القضية!

قراءة كتاب لا تعني مجرد حمل الكتاب وقراءته، بل تتخطى هذا البعد بكثير. فالكتاب على حوار فكري مع القارىء وللأسف هذا ما نفتقده. فقد أفقدتنا أنظمتنا التعليمية الحوار مع الكتاب، لأن الحوار مع الكتاب يشكل تهديداً مباشراً لها. فقد تعلمنا أن نحفظ دروسنا من الكتاب ونذهب إلى الامتحانات ونكتب ما حفظنا لننجح. وعند النجاح نرمي الكتب أو نتخلص منها بأية وسيلة. فيصبح الكتاب بالنسبة لنا مجرد نوع من العقوبة المتوجب عملها كي نتحرر. وبهذا نفقد الصلة الحوارية مع الكتاب ويصبح بلا فائدة لنا.

فتفقد الكتب قيمتها التغييرية أو التأثيرية علينا، ويصبح مجرد ورق عليه كلمات أرددها من دون أن أتأثر بها. فيصبح شراء الكتاب مسألة تافهة ثانوية لا قيمة لها، إلا تلك الكتب المتوافقة مع الأمور غير المؤثرة، مثل كتب الطبخ، وكتب حياتنا الجنسية، وكيف تصبح مليونيراً خلال ستة أشهر و… وما أكثرها في الأسواق، طبعاً إضافة إلى الكتب المتعلقة بالأفكار القدسية، ومحاولة العيش في الماضي لا الحاضر ولا بناء مستقبل.

قطيعة ممنهجة مع الكتاب تبدأ بأول درجات السلم التعليمي ولا تنتهي بآخره. فكيف لي أن أشتري كتاباً لا علاقة له بي ولا علاقة لي به؟ وكيف لنا أن نتحدث على كتب أثرت بتاريخ البشرية؟ فكل هذا خارج عنا.

قد يقول البعض: تكتب عن الكتب في زمن نسبة الفقر فيه تتجاوز 70%، في سورية، وفي لبنان نسبة الفقر تفوق النسبة في سورية؟ تتحدث عن الكتب في زمن القتل والجوع والقمع والاحتلال والتهجير والانهيار الاقتصادي المقصود! نعم، أتحدث عن الكتب لأننا لو أجدنا القراءة والحوار مع الكتاب لما وصلنا إلى ما نحن عليه. ثانياً، في ظل كل هذه الأزمات والمزيد منها لو أرادت أنظمتنا أن نتحاور مع الكتاب لكانت عملت على بناء مكتبات عامة في الأحياء السكنية، وجعلت من الأنظمة التعليمية أنظمة تعليمية متطورة مع مستلزمات المستجدات في عالم التعليم لكي نتحاور مع الكتاب، لكُنّا أفضل حالاً ولكُنّا أثرنا في الكتاب وتأثرنا به وفي حينها يمكن أن نقيم أي أكثر الكتب تأثيراً في حياة البشرية، أو على الأقل في حياتنا.

فالمكتبات العامة التي يمكن أن تبنى في الأحياء السكنية قد تحفز الفقراء على القراءة، ولا يكون هناك من حاجة لهم لشراء كتاب من دخلهم المتدني جداً، أو حتى دفع كلفة التنقل من مكانهم إلى مكان آخر كي يتمكنوا من الدخول إلى مكتبة عامة ضخمة واحدة متمركزة في وسط المدينة. لكن سلطات العالم العربي تعي مدى خطورة الحوار مع كتاب، فجعلت من الكتاب مسألة ثانوية تافهة، وأصبح الهاتف الخلوي بمفهومه الاستهلاكي أهم بكثير من شراء كتاب. فأنظمتنا تسوّق لكل ما هو استهلاكي وتعمل وفقاً لقشور النظام الرأسمالي وإن ادّعت بأنها لا رأسمالية وترفع شعارات العداء المزيف ضدها!

العدد 1104 - 24/4/2024