ما زلنا في أنواع الانقراض

د. أحمد ديركي:

نعم، هناك أنواع متعددة للانقراض. فهناك انقراض بيولوجي وانقراض غير بيولوجي. الانقراض البيولوجي يهدّد كل الكائنات الحية ومن ضمنها الجنس البشري. والسبب الرئيسي للانقراض البيولوجي يكمن في الاستغلال الوحشي للإنسان للبيئة وتدميره لها، والسبب الآخر يكمن في التغيرات المناخية التي تصيب الكرة الأرضية، كالعصر الجليدي الأول وما تبعه من تغيرات مناخية أدت إلى انقراض بعض الكائنات البيولوجية، أو اصطدام نيازك بالأرض.

وهنا يمكن الاسترشاد، بشكل عام، بالنسبة للانقراض البيولوجي أو وجود جنس جديد، بالنظرية الداروينية وما تبعها من تطورات في عالم البيولوجيا بكل تفرعاته، وصولاً إلى الهندسة الوراثية. لكن في كل الحالات يمكن مشاهدة دور الإنسان الفعال ومساهمته في الانقراض، وطبعاً بالتحديد الطبقة البرجوازية في المجتمع الإنساني، وكيف تعمل هذه الطبقة على المساهمة في الانقراض البيولوجي وتُظهر نفسها وكأنها المدافعة عن الجنس البشري.

أما الانقراض غير البيولوجي فهو عملية أبطأ من الانقراض البيولوجي، وفي الوقت عينه تساهم في الانقراض البيولوجي. وقد يكون من أبرز الأمثلة على الانقراض غير البيولوجي وجود المناجم والكسارات. تلك الكسارات التي تحفر في الجبال وتأكلها، كما تأكل الفئران مزروعات الحقول، من أجل صناعة مواد البناء. فالإنسان بحاجة إلى منازل وأبنية وقصور فخمة وأحجار رخامية و… وكل هذه الأمور كي يعيش في رخاء في قصره، والتماثيل والمنحوتات، ومعظم المواد الأساسية لهذه الرفاهية تأتي من الحفارات التي تأكل الجبال. عند تشويه الجبل بقضمه بواسطة الحفارات مع الوقت ينقرض الجبل، ويتحول إلى مجردة هضبة، إن استطاع النجاة، أو مجرد شكل طبيعي مشوّه بشرياً، فلا هو بجبل ولا هو بهضبة. انقراض الجبل، انقراض غير بيولوجي، ولكنه يؤثر على الحياة البيولوجية ويؤدي إلى انقراضات بيولوجية.

مجدداً، من يقوم بأكبر كمّ لانقراض الجبال هم الطبقة البرجوازية. فالفقراء ومن هم دخلهم أقل قليلاً من الفقراء يسكنون في منزل متواضع، أو مقبول، أو في بناء سكني. أما الأغنياء فلهم قصورهم وشققهم الفخمة المستهلكة لكمٍّ كبير من المواد المنتجة من قرض الجبال. وهنا أيضاً يتباكى الأغنياء على هذا الاستهلاك للطبيعة وقضم الجبال ويتهمون المساكن العشوائية والفقراء بأكلهم للجبل وتشويه المنظر الطبيعي.

كما يوجد نوع آخر من الانقراض إلا أنه انقراض خفيّ. نعم، انقراض خفي لا يشعر به الفقراء، ولا حتى الطبقة البرجوازية. إلا أنه انقراض يكسب الطبقة البرجوازية المليارات يومياً، لا شهرياً أو أبعد.

إنه انقراض الفئة الصغيرة من العملات. فمن المتعارف عليه أنه مع التضخم يتآكل سعر العملة ويرتفع سعر السلع بكل أصنافها. فمثلاً إن كان سعر السلعة 100 ليرة مع التضخم يرتفع السعر إلى 110 ليرات أو أكثر معتمداً على مستويات التضخم. فما يحدث في بلادنا أن التضخم مرتفع جداً وحدث بشكل متسارع، فارتفعت أسعار السلع بشكل جنوني، ليس بسبب التضخم فقط، بل لأن الطبقة البرجوازية وحليفتها السلطة السياسية، تعمل على الحفاظ على مستويات الأرباح وزيادتها، فتشرع للتجار والمستوردين، كل التنظيمات التي تحميهم وتحمي أرباحهم على حساب الفقراء والطبقة العاملة.

مع ارتفاع مستويات التضخم تنقرض الفئات الصغيرة من العملات. فمثلا تصبح الـ100 ليرة لا قيمة لها، ولا حتى الـ500 ليرة و… لكن تبقى السلع تسعّر بهذه الكسور، أو الفئات الصغيرة من العملات. للتوضيح هناك سلعة مسعرة بقيمة 10560 ليرة. عند شرائها هناك أزمة ففئة الـ100 ليرة مفقودة لأنها انقرضت، وحتى فئة الـ500 انقرضت. ما الحل؟ لأن هذه الفئات الصغيرة من العملات أصبحت بلا قيمة فالمشتري يدفع 11 ألف ليرة ثمناً لها ولا ينتظر من البائع أن يرد له الباقي، لانقراض فئة الباقي.

لنتوقف هنا قليلاً. هذا السعر 10560 ليرة يتضمن سعر البضائعة زائد الربح. فالمشتري دفع 11 ألف ليرة أي دفع ربحاً على الربح! فمن المستفيد من هذا الربح على الربح؟! إنه التاجر، والمصنع، واختصاراً مالك وسيلة الإنتاج، أي البرجوازي.

فهنا انقراض الفئات الصغيرة من العملة، لفقدان قيمتها، يكلف المواطن المزيد من الإنفاق غير المنظور ويحقق المزيد من الأرباح المنظورة للطبقة البرجوازية، وحليفتها السلطة السياسية. فكيف للسلطة السياسية أن تفك ارتباطها مع البرجوازية ما دام الطرفان حليفين وكل منهما يدعم الآخر؟!

العدد 1104 - 24/4/2024