أضواء المدينة

صفاء طعمة:

إن أول ما قد يتبادر إلى ذهن من يعبر شوارع دمشق ليلاً، سواء داخل مركبة أو سيراً على الأقدام، هو عنوان (أضواء المدينة). لا نقصد بهذا عنوان الفيلم الأمريكي الصامت (أضواء المدينة (City Lights)) الذي كتبه وأخرجه الممثل تشارلي شابلن، والذي قدم فيه ملهاة مأساوية كوميدية رومانسية بطلها رجل بسيط أبله يحاول تقديم المساعدة لمن يحيط به ويقع دائماً في المشكلات بسبب ذلك، ولا الجوائز التي منحت له والتي وضعت الفيلم في المراتب الأولى ضمن قائمة الأفلام الأكثر تأثيراً في السينما الكلاسيكية آنذاك، بل جلّ ما يستحوذ على تفكير العابر ذاك هو الأضواء التي غابت عن أغلب أحياء العاصمة وشوارعها وشمل الغياب شوارعها الرئيسية وشرايينها الحيوية، حتى بات السير في تلك الشوارع أشبه بألعاب الفيديو، لا تعرف تماماً ما قد يواجهك أثناء السير من حفر أو أرصفة متكسرة أو ربما  تُفاجأ بأشخاص يقطعون الطريق دون انتباه من الطرفين وخصوصاً في الطرقات السريعة مثل المحلّق الجنوبي أو طريق المطار، ما يعرّض المواطنين للحوادث والأخطار بسبب الظلمة في تلك الأماكن.

بالنسبة للسوريين وبعد ما يقارب عقد ونيف من حرب أتت على أغلب البنية التحتية في البلاد ومنها قطاع الكهرباء التي أصبح وجودها حلماً أو كابوساً للسوريين، يتصدر خبر ارتفاع فواتير الكهرباء وقروض شراء الطاقة الشمسية البديلة الحديث اليومي للشارع، ويثير تساؤلات كبيرة عن قدرة متوسط الدخل للفرد العادي المرهق أصلاً على مواءمة متطلباته. ومن هذه الزاوية نطرح السؤال عما إذا كان بالإمكان اللجوء إلى حلول أخرى تتوافق مع الواقع والبيئة المحلية لاختصار الكلفة ما أمكن إلى حدودها الدنيا.

للإجابة ولو نظرياً عن هذا السؤال نقرأ في الحلول التي اتبعتها العديد من الدول حول العالم لمواجهة هذه المشكلة، وأهمها المصدر الأكثر وفرة في كل مكان وهو النفايات.

 

النفايات حلّ بديل للطاقة النظيفة

أثبتت عدة تجارب ناجحة حول العالم مثل الصين واليابان والهند فعالية تحويل النفايات العضوية إلى مصدر فعال للطاقة، سواء عن طريق الصهر المباشر أو حرق النفايات الصلبة أو التسييل والتغويز وتقنيات كثيرة يراعى عند استخدامها توافر المتاح في البيئة المحيطة.

اتجهت بعض المعامل الحيوية في الهند على سبيل المثال إلى اعتماد تقنيات أخرى مثل التسييل وهي تحويل الكتلة الحيوية، سواء كانت حبوباً ومحاصيل زراعية أو زيوتاً وشحوماً حيوانية، إلى وقود سائل من خلال عمليات معالجة كالتخمير أو الأسترة للحصول على إيثانول كحولي والديزل الحيوي. ويعتبر الوقود السائل من أفضل أنواع الوقود باعتباره مصدر طاقة نظيفة ويسهل نقله بأنابيب وتخزينه، واستخدامه في محركات وسائط النقل المختلفة وتشغيل المولدات لإنتاج الطاقة الكهربائية.

عكست تلك العمليات تحسناً ملحوظاً في مستوى معيشة السكان في عدة أماكن فقيرة، ومكنت المزارعين من بيع جزء من مخلفات المحاصيل والقشور المتبقية بعد مواسم الحصاد إلى محطات خاصة تعمل في مجال إنتاج الطاقة من الكتلة الحيوية، إضافة إلى الفوائد التي تعود من ذلك على صحة المناخ، فتوليد الطاقة من الكتلة الحيوية يساهم سنوياً في توفير 360 ألف طن من ثاني أكسيد الكربون.

طريقة أخرى تستخدم أيضاً وهي التخمير اللاهوائي للمخلفات العضوية الزراعية والحيوانية، ويعتبر من أكثر التطبيقات شيوعاً في الريف في كثير من الدول النامية لتوافر شروط إنتاجيته التي تعتمد على المواد والمدخلات المتاحة في المجتمع المحلي.

والمنتج عن عملية التخمير تلك آمن وصديق للبيئة، إضافة إلى تكلفته المنخفضة مقارنة بتكنولوجيات الطاقة الشمسية، وغني في محتواه بالعناصر المفيدة للنبات، وخالٍ من الميكروبات واليرقات وبذور الحشائش الضارة ولا يلوث البيئة. وبالتالي يمكن استخدامه في تسميد الأرض الزراعية أو إضافته إلى العلف كمصدر غني بالأملاح.

هناك طرق أخرى في إصدار الطاقة لاستخدامها لتوليد الكهرباء، لكن ما ذكرناه آنفاً هي بعض الطرق التي تؤثر وتتأثر بشكل مباشر بالبيئة الزراعية الريفية، الممتدة على أغلب الأراضي السورية، والتي يمكن استخدامها محلياً والتي تؤمن مناخاً مناسباً للاستثمار فيها إذا دُعِّمت بالقوانين والقروض والتسهيلات الداعمة للبدء بمشاريع من هذا النوع، وتوفير التقانات اللازمة لتأهيل الكوادر وإيجاد فرص عمل للسكان المحليين.

توفير مثل هذه المقومات سيعود على الدولة بفوائد كثيرة، أهمها المساهمة في إعادة بناء البنية التحتية في الريف وتأمين مصادر دخل ثابتة، وطبعاً مع ما يرافق ذلك من إعادة تنظيم هيكلية مجتمعية متكاملة من مدارس وتعليم وفرص عمل جديدة تعود على الجميع بالتأثير الإيجابي، كل ذلك بالتأكيد سيخفف الضغط عن أضواء المدينة نفسها التي سيمدّها الريف الغني نفسه بوهج أكبر لتعود من جديد.

العدد 1105 - 01/5/2024