وباءٌ ثقيل بلا علاج يُرجى!

إيمان أحمد ونوس:

لا شكّ أن المخدرات قديمة قدم الإنسان على الأرض، فهي بغالبيتها نباتات اكتشفها الإنسان ذاته، فاستعملها للتداوي حتى صارت عبر تاريخ المجتمعات البشرية ضرورة طبية تدخل في بعض الأدوية والعلاجات الاستشفائية على نطاق واسع في العالم أجمع.

لكنها مع مرور الزمن تحوّلت إلى آفة خطيرة أصابت المجتمعات الإنسانية كافة، وإن بنسب متفاوتة بين مجتمع وآخر، تِبعاً للواقع الاقتصادي والاجتماعي ومستوى الوعي الفردي والجمعي منها، وكذلك تِبعاً للقوانين الناظمة لمعالجتها والآثار المُترتّبة عليها صحياً وقانونياً، لا سيما حين أصبح التعاطي والإدمان في صدارة المشكلات الاجتماعية والصحية على المستوى العالمي منذ منتصف القرن الماضي.

نعم، إنها آفة تزدهر في الحروب والنزاعات الأهلية والدولية، بحكم الأجواء والظروف المُؤّهلة لها، من حيث انعدام كل أنواع الرقابة الحكومية والأسرية والقيمية، إضافة إلى انتشار الفساد والاتجار بالبشر بمختلف اتجاهاته، ومنها تجارة وترويج المُخدّرات لدى البعض ممّن يسعون وبشتى الوسائل والحيل لجني أرباح طائلة من جهة، ولتدمير الطاقات البشرية خاصة لدى جيل الشباب لغاية في نفس بعض الحكومات الفاسدة والمُستبدّة التي لا تريد لأولئك الشباب نهوضاً يُجهز على كينونتها وبقائها، فقد أضحت هناك عصابات ومافيات دولية مهمتها الوحيدة الاتجار بالمخدرات خاصّة في المجتمعات المتخلّفة والمقهورة منذ قرون خلت، ومجتمعنا السوري ليس استثناءً بالتأكيد.

ممّا لا شكّ فيه أن هذه التجارة العالمية تقتاتُ على أعمار يافعة وشابّة تسعى في كل الظروف والأزمان للاكتشاف وتجريب كل ما من شأنه أن يُشعرها بتوكيد الذات في مرحلة عمرية هشّة وحسّاسة في آنٍ معاً. وشبابنا اليوم محاصرون بمعضلات وأزمات تُقيّدهم وتغتال إنسانيتهم على مدار الساعة، ما حملهم لتجرّع مرارة الإحباط والتشاؤم بسبب شعورهم بالعجز عن تحقيق شيء ذي قيمة مادية ومعنوية، إن كان على الصعيد الشخصي أو العام، إحباطات وانكسارات متتالية جرفت البعض منهم لدوامات خطرة من الاستلاب واللاّجدوى من حياةٍ ومجتمعٍ وضعهم قبل الحرب على هامش الزمن، بينما وضعهم خلالها في بؤرة ودوّامة حربٍ لا ناقة لهم فيها ولا جمل، سوى أنهم أفراد ينتمون لهذه الجهة أو تلك، وبالتالي عليهم القتال معها كي تميل كفّة الميزان لصالح هذه أو تلك، وسط تيهٍ جارف لم يعرف أولئك الشباب مُستَقرّهُ بعد، ووسط تُجّار نشطوا في كل الاتجاهات المُفضية إلى تخريب المجتمع والإنسان، ومنها المُخدّرات طبعاً.

وهنا، أخذ الانتقام من الذات والمجتمع لدى بعض الشباب حيّزاً لا بأس به، فلاذ بعضهم بالهجرة خلاصاً منشوداً، والبعض الآخر لاذ بما اعتقده نشوة وسعادة تُبعده عن هذا الواقع المأفون. والنتيجة: بلاد اغتالت وتغتال شبابها، عماد مستقبلها وتطوّرها.. أجيال باتت تذروها للأسف رياح المخدرات المنطلقة من كل حدبٍ وصوب.

كانت سورية تُعتبر وإلى سنوات خلت فقط بلد عبور للمخدّرات من دول الإنتاج إلى دول الاستهلاك وسورية منها منذ ما قبل الأزمة والحرب التي ساهمت ولا شكّ في زيادة انتشار ظاهرة المخدّرات في المجتمع وفي صفوف الشباب ومنهم طلبة المدارس بمختلف مراحلها. لكن، وكما هو معروف اليوم فقد باتت سورية إحدى أهم الدول المُصنّعة للمخدّرات في المنطقة (حسبما تُصرّح وسائل الاعلام)، والمُستهلكة لها على نطاق واسع لاسيما بين فئات اليافعين والشباب والمهمّشين، وما هذا إلاّ بفعل الحرب واحتياجاتها الدائمة لرأسمال يغطي نفقاتها المتزايدة يوماً بعد يوم، رأس مال وجد في تلك الصناعة والتجارة، وفي تلك الفئات ضالته المنشودة، ما يقود المجتمع إلى هلاك شبه محتوم إن استمر الحال على ما هو عليه، رغم أننا لا نُغفل أن هناك أسباباً أخرى متعدّدة ومختلفة ساهمت في انتشار ظاهرة المخدّرات قبل الحرب بكثير، منها الأوضاع الاجتماعية والأسرية كالتفكّك الأسري نتيجة غياب الأب المسافر لتأمين لقمة العيش، أو الطلاق أو وفاة أحد الأبوين، إضافة إلى حصول عدد من هؤلاء الشباب على مصروف كبير لدى بعض الأسر الميسورة لتعويضهم عن غياب الأب، أو تسيّب الأهل وانشغالهم عن قضايا الأبناء ومتطلباتهم. وعلينا ألاّ نُغفل خاصية حبّ الاستطلاع والتجريب والاكتشاف لدى الشباب، وأيضاً الاقتداء ببعض الأصحاب. كذلك فإن ارتفاع نسب البطالة منذ ما قبل الحرب وحتى اللحظة، مُتضامنة مع تدهور الوضع المعاشي لشرائح كبيرة من الناس نتيجة الارتفاع المحموم لكل ما لا يمكن الاستغناء عنه من أجل البقاء على قيد الحياة، إضافة إلى تقلّص فرص التعليم العالي المجاني أمام شرائح الشباب، وكذلك تضخّم المهور وأسعار السكن اللازم للاستقرار وبناء أسرة، كلّها عوامل اجتمعت لتُخلي الساحة للمخدرات كي تفعل فعلها بين جموع الشباب المُحبط والتائه والمُستلب، الشباب الذي بات يائساً وبائساً في آن معاً.

من هنا، نجد أن ما وصلنا إليه، وما آل إليه مصير بعض الشباب والأطفال من الجنسين هو مسؤولية أسرية ومجتمعية وحكومية تتمثّل في إهمال جيل الشباب وإقصائه عن طاقاته وأحلامه وآماله، وبهذا يكون علاجها كذلك مسؤولية كل هذه الجهات التي ذكرنا وبكل الوسائل المتاحة، من خلال معالجة المشكلات التي أدّت لحدوثها وانتشارها، والتي وصلت اليوم إلى مستوى الوباء القاتل الذي لم يجد، أو لم يهتدِ بعد (بقصد أو دون قصد) لأساليب ووسائل العلاج المطلوب والكافي.

العدد 1104 - 24/4/2024