الحضارة الإنسانية الجديدة.. وموجة التطور الثالثة

يونس صالح:

بدأ العالم وخاصة الدول المتقدمة طريقاً لصنع حضارة جديدة تعتمد أساساً على النمو في المعلومات، وطرق توزيعها وإدارتها، وهذا ما جرى التعبير عنه بالموجة الثالثة التي تجلب معها طريقة جديدة تماماً للحياة، تقوم على أنماط جديدة في التصنيع، وشكل العائلة، وتنظيم المعلومات، وعلى أشكال جديدة للمدارس وشركات للمستقبل تختلف كثيراً عما كان عليه الأمر سابقاً.

ولقد حدثت ثورة الموجة الثالثة، ومازالت أحداث الموجة الأولى (الزراعية) والموجة الثانية (الصناعية) تتتابع ولكن بأشكال مختلفة، ففي البلدان النامية، والبلدان العربية منها، مازال طابع الموجة الأولى يسيطر بجانب الموجة الثانية. أما في البلدان المتقدمة وعلى سبيل المثال الولايات المتحدة، فإن القطاع الزراعي لا يشغل أكثر من 2% من عدد السكان، والطابع العام هو طابع الموجة الثالثة.

مع وجود للموجة الثانية، يتجلى في استمرار بقاء الصناعات الضخمة، وما يترتب على ذلك من إنتاج ضخم وأسواق كبيرة لتصريف الإنتاج.. ويقارن الاقتصاديون ما يحدث الآن من صراع بين الموجة الثانية والموجة الثالثة، بما حدث في الماضي حين أدى التصادم بين الموجتين الأولى والثانية إلى أزمات داخلية خطيرة، وأيضاً على الصعيد العالمي: صراع بين أصحاب الأراضي والصناعيين من جهة، وصراع بين الدول الكبيرة كإنكلترا وألمانيا للسيطرة على العالم من جهة أخرى.

وأهم سمات الموجة الثالثة بناء مجتمعات تفتيت الكتل وإنشاء نظام متقدم للمعلومات يعتمد أساساً على التطور الهائل في الحاسب الآلي وأنظمة الاتصالات والمواد الجديدة، والتطوير في إنتاج الطاقة، والدراية الفنية المتقدمة والمعرفة التي تعمل على توفير الوقت، والمكان سواء من أماكن التخزين أو وسائل النقل، وفي سرعة التوزيع والاتصال بين المنتج والمستهلك، هذه المعرفة التي تقودها العقول البشرية وهكذا يحل رأس المال البشري محل رأس المال البنكي.

ومثلما تحول العمال الزراعيون من الزراعة إلى الصناعة، وأصبح من يعمل في الزراعة يمثل 2% من العمالة الكلية، فإن أمريكا مع ذلك احتفظت بقوتها الزراعية، وكذلك فإن العمال سوف يتحولون من نظام التصنيع المالي، أي نظام الموجة الثالثة، وقد بدأ التحول بخطوات واسعة.

لقد أصبح ميدان الأعمال في الموجة الثالثة ينقسم إلى ثلاثة قطاعات:

الزراعة، والصناعة، والخدمات، والآن ما يضيف إلى القيمة هو العمليات الرمزية أو عمل العقل الذي نحن في حاجة إليه أكثر من غيره.

وبناء على كثافة المعلومات التي تملكها الشركة، يمكن تقسيم الشركات إلى ما أطلق عليه الاقتصاديون حاجباً مرتفعاً، وحاجباً متوسطاً، وحاجباً منخفضاً.

في اقتصاديات الحاجب المنخفض تقاس الثروة بامتلاك السلع، وينظر إلى إنتاج السلع كمحور أساسي في الاقتصاد، ولم تأخذ الأنشطة الرمزية قدرها من الاهتمام، وتجاهل الاقتصاديون دورها في الإنتاج. إن ما يهم باختصار هو المادة.. ولقد عكس هذا التفكير تمجيد البروليتاريا، والنظرية القائلة بأنهم طلائع التغيير وحراسه، ظلت أيديولوجية المادة أولاً، وهي أيديولوجيا إنتاج الموجة الثانية. في العاصفة التي يمر بها اقتصاد الموجة الثالثة، فإنه يأخذ شكلاً جديداً يوصف بأنه الحاجب المرتفع، وهو أكثر تنوعاً، وأسرع في التنفيذ، وأكثر تعقيداً من اقتصاد المداخن القديم، وتحتاج مقابلة هذه الوثبة الجديدة إلى مستويات أعلى لتشغيل المعرفة.

إن هذه الصياغة الجديدة تبطل افتراضيات الماركسية التي كانت سائدة حتى وقت قريب عن القيمة، وهكذا فإن فكرة أن القيمة تخرج من عرق العامل وحده، ظهرت غير دقيقة.. ففي الاقتصاد الحديث، إن الرجل الذي يشغل الحاسب الآلي، والمصمم، وأيضاً المختصون في الاتصالات اللاسلكية، كلهم يضيفون قيمة. إن القيمة تنتج من جهود جماعية بدلاً من أن تنبع من خطوة واحدة منفصلة في العملية.

إن ظهور الحاسوب الآلي ووسائل الاتصالات الجديدة قد لعبا دوراً في إنهاء سيطرة الأنظمة الاشتراكية، التي لم تدرك مفهوم التغيير، وظلت آليات الموجة الثانية تعمل دون الآخر في الحسبان ما يحدث في البيئة الخارجية.

لقد عملت هذه الدول على إلغاء الملكية الخاصة، ولكنها وهي تفعل ذلك هيمنت على كل وسائل الإنتاج، ومع ذلك لم تعمل الصناعات المؤممة على تطوير التصنيع، وزيادة الأرباح، بل على العكس، ترعرعت فيها بيروقراطية التصنيع، والبطء في إعادة التنظيم، وعدم التكيف مع حاجات المستهلك، والخوف من إحاطة المواطنين بالمعلومات، والخوف أيضاً من تبني التقنية المتقدمة، وغفلت تلك الدول أيضاً عن أن هناك نظاماً جديداً لصناعة الثروة، إنها المعرفة التي يمكن أن يستخدمها الكثيرون في الوقت نفسه لصناعة الثروة ولإنتاج معرفة أكثر.

وعلى الرغم من أن تلك البلدان قد توهمت أن التخطيط هو الركيزة الثانية للنظام، فإن التخطيط لم يسعفها، واعتمد نظام السيطرة من أعلى إلى أسفل على الأكاذيب التي أشاعها المديرون الذين كانوا يخشون دائماً من ظهور عثرات الإنتاج في مصانعهم.

والركيزة الثالثة التي انهارت في الاقتصاد الاشتراكي هي التأكيد المبالغ فيه كثيراً على المعدات مما جعلهم يركزون على صناعة المداخن، وحطوا من قدر عمال الزراعة ومستخدمي العقل.. وتشبث التيار الرئيسي من الماركسيين آنذاك بصفة خاصة، بالفكرة القائلة إن الأفكار والمعلومات والفن والثقافة والقانون والنظريات وغيرها من النواتج غير الملموسة، هي عبارة عن جزء من بناء فوقي نظري بعيد عن الواقع الاقتصادي.

وباختصار.. عند ظهور اقتصاد الموجة الثالثة الذي مواده الأساسية هي في الحقيقة برامج ذهنية غير ملموسة، وجد أن العالم الاشتراكي غير مهيأ، ولم يكن هناك مفر من الاصطدام بين تلك الاشتراكية والمستقبل، هذا التصادم القاتل.

 

ماذا بالنسبة لنا؟

إننا لا نزال لم نرسخ بعد كل مقومات الموجة الثانية، ولم ندعم كياناتها.. إن مصانعنا متخلفة، وهي في كثير من الأحيان من الطور الأول في الثورة الصناعية، ولم نتدرب حتى على صيانتها وتجديدها كما يجب، والآلات المعدات التي نستوردها نتركها تتهالك أمام أعيننا.. نحن في حاجة إلى طريقة تفكير جديدة، لا لنصل إلى الموجة الثالثة، بل لندعم ونرسخ الموجة الثانية أولاً، ولعلنا نستطيع بعد ذلك أن نطوي المسافة التي تفصلنا عن نهاية هذه الموجة بأسرع ما يمكن حتى نلحق بركب الموجة الثالثة.

العدد 1104 - 24/4/2024