خاطرة حول التاريخ

يونس صالح:

التاريخ طفل عجوز شديد النزق، يقضي معظم وقته في ظلال الدبابات والصواريخ والحمقى.

إنه علم مدلل عجوز صاخب يبدو ذكياً، مع أنه لايزال يرضع من ثدي الاجتماع، ويعابث بطن الجغرافيا، ويقضي معظم أوقاته على موائد الأقوياء ليمتعهم بعربدته، ومظاهر حكمته، لكنه، في أوقات أخرى، يستجدي العلماء والذين هم بطبيعتهم مقتّرون شديدو الشحّ، ولذا تجد المساحة التي اختارها كل العلماء والفلاسفة والمصلحين في مختلف العصور من حديقته الوارفة أقل مما استولى عليه الاسكندر ونيرون ونصف نابليون وربع هتلر، وقد فشلت إلى الآن بشكل ما كل النظريات والفلسفات التي حاولت إخراج التاريخ من تحت سطوة الحكام ليضعوه في مجال حركة الشعوب، إذ إن الأمر لم يتعدَّ أن يذكر المؤرخ الواقعة الشعبية وعيونه على نوافذ الحاكم، وفي كثير من الأمور والوقائع ظل التاريخ نائماً مرهقاً تحت ظلال الدبابات والصواريخ، لكنه، حين يفيق لنفسه، تراه رثّ الملابس، طويل الشعر، زريّ السحنة، يتعثر في مواكب المماليك، طبقات، وبين أجساد مذابح الإسرائيليين في فلسطين، وتحت سقف الأمم المتحدة، وفي أجواء ناغازاكي وهيروشيما.. إنه لا يهتم بالعواطف والقصائد والأغاني، يتأرجح بين المواقع الدموية، ويخوض في أشلاء المخلوقات والمكائد والمؤامرات والجدل والمواثيق والمعاهدات والخطب العصماء.

وقليلاً ما يسترد التاريخ شبابه، فتراه نظيفاً وسيماً له حلاوة وقساوة، حيث يفخر بأنه ارتدى ملابس العمال مرّة أو مرتين، وأطلق الحمام إلى عنان السلام ثلاث مرات أو أربعاً، تحس أنه بالغ الإنسانية وهو يفتح الطريق لرسل الحضارة الإنسانية، لكن ذلك لا يحدث إلا نادراً، لأنه دائم الانشغال بذوي السطوة والبأس أكثر من اهتمامه برسل الحضارة الإنسانية المهتمين بإصلاح حال البشر.

ومع كثرة المدارس المعاصرة في تفسير فلسفة التاريخ من (مادية جدلية) إلى نظرية التحدي والاستجابة، إلى (باب الحرية الحمراء الذي بكل يد مضرجة يدقّ)، ثم إلى ما (إذا الشعب يوماً أراد الحياة، فلابد أن يستجيب القدر)، أو الأمر بأن تقيم من قبرك هرماً كي تجد لك في التاريخ أثراً، فقد أصبح لزاماً علينا أن نعترف بأن ثمة ثلاثة أنواع منه:

التاريخ الديني المنزل من رب القدرة في الكتب السماوية، وتاريخ فلولكلوري على ألسنة الناس يحكي حكايات أبطالهم وآمالهم وأحلامهم وأهازيجهم وخرافاتهم وأساطيرهم، وتاريخ يدرس هو الذي تحتفظ به في مكتبتك، وهو أبسط أنواع التواريخ، وأكثرها ترتيباً وسذاجة، أما التاريخ الحقيقي، فلايزال في الرحم، وعلينا جميعاً أن ننتظر الولادة.

العدد 1104 - 24/4/2024