الاختراق السياسي لمفهوم الحرية الغربي في الفن التشكيلي

بولس سركو:

طوال فترة الاحتلال العثماني لبلادنا، كان الفن التشكيلي مقموعاً محاصراً، لا قيمة له ولا حتى وجود اجتماعي إلا كمهنة نادرة مهملة وموظّفة لتكريس صيغة عثمانية خاضعة لضوابط التحريم ومختلف المعايير المقيدة والضاغطة والمحصورة في مجالات الزخرفة التزيينية الخاصة بدور العبادة وبعض الحرف.

مع ذلك لم يجرؤ أحد حتى اللحظة على محاكمة ذلك التسلط الإيديولوجي السافر على الفن محاكمةً نقدية علمية علنية، ولم نسمع أحداً من مدّعي الحرص على استقلالية الفن ونقائه يدين مجرد إدانة الآثار الكارثية التي طالت وجود الفن بالكامل، بل بالعكس ففي الوقت الذي هوجمت فيه الواقعية الاشتراكية وأدينت بصفتها عقبة أمام حرية الفن، في الوقت نفسه جرت عملية واسعة لتلميع التراث الماضوي، وأعطيت تلك العملية الرجعية مشروعية الحفاظ على الهوية عن طريق تحديث المنجز الفني الأيقوني والزخرفي.

هذا التناقض الغوغائي لا يمكن حصوله في بيئة علمية تسعى للارتقاء والتحضر، إنما هو تناقض ناجم عن وضعية تبعية متخبطة، مفتقرة لشخصيتها السيادية، تعجز بالتالي عن التعبير الموضوعي عن واقعها التاريخي وتدور في حلقتها المفرغة.

لتأكيد ذلك نستعرض بعض المقاربات التاريخية، فمن المتعارف عليه أن الحركة التشكيلية السورية بدأ يكتمل تكونها خلال النصف الثاني من القرن العشرين تحت تأثير الخبرات والتقنيات والمدارس والنظريات الجمالية الغربية، بين العامين 1950 و1970 كانت قد أوفدت البعثات السورية الأولى إلى العواصم الغربية لتلقي علم الجمال والعودة بأحدث توجهاته إلى الوطن، فما طبيعة تلك التوجهات؟ وهل يمكن فرزها عن مجمل توجهات الثقافة الغربية في تلك المرحلة؟

الكاتبة الإنكليزية فرانسيس ستونر سانديرز كشفت فضيحة مدوية في كتابها (من دفع للزمّار) حول الاختراق السياسي الغربي لمفهوم الحرية في الثقافة الغربية، ومن التسريبات التي كشفتها إعلان آلان دالاس (مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية)، عام 1945 أن وكالته ستوظف كل شيء من أجل تسفيه المدارك والتلاعب بالعقول. وقوله (سنقوم بشكل غير ملحوظ بتبديل قيم الناس بقيم زائفة.. ومن خلال الأدب والفن سنقلب الجوهر الاجتماعي للإبداع وسنعزل الفنانين عن محيطهم ونقتلع منهم الرغبة في تجسيد حياة الناس الحقيقية، وسنقدم كل الدعم لإشهار الفنانين الذين يزرعون الفوضى والارتباك وكل ما هو غير أخلاقي، سيصبح التقيد بالقانون والنظام أمراً مضحكاً، وسيزدهر المجون بكل أشكاله دون حياء ولا خجل). وأكدت الكاتبة أن إعلان دالاس بدأت الوكالة بتطبيقه عملياً عندما نظمت ورعت مؤتمر (الحرية الثقافية) في برلين _ ألمانيا في 26/6/1950 لأداء مهمة برمجة الثقافة أمنياً لخدمة السياسة والمصالح الأمريكية. كما أكدت أن الغالبية العظمى من المفكرين والكتاب والفنانين الأوربيين الغربيين كانوا أعضاء في منظمة الحرية الثقافية المنبثقة عن المؤتمر، إما طوعاً بسبب إغراء شعار الحرية، أو عن طريق شراء الذمم والرشاوى المالية الكبرى، كما أكدت أن ذروة نشاط المنظمة كانت بين العامين 1950 و 1960 وهو يعني أن مجمل العلوم بما فيها علم الجمال وتحديثاته والتوجهات الصادرة عنه في تلك المرحلة كانت مخترقة سياسياً وليست نتاجاً طبيعياً لتطور المعارف الجمالية، وأن العناوين التي برزت وقتذاك مثل (الفن للفن، نقاء الفن، الجنون في الفن، حرية الفن ..الخ) كانت مجرد واجهة مزيفة لتمرير ذلك الخرق السياسي.

فإذا كانت إحدى أساسيات النقد تصوب مسار توجهات الحركة التشكيلية، وإذا كانت السيادة الثقافية شرط حرية الحركة التشكيلية وتطورها، فلا بد من اعتبار هذه الفضيحة قاعدة لإعادة النظر في مجمل تصوراتنا حول العقبات التي تحول دون حرية الفن والفنان.

العدد 1104 - 24/4/2024