إعادة الإعمار والحوار الوطني

هيثم الشعار:

تحتاج عمليات إعادة الإعمار إلى كثير من المقومات كي تنطلق، وإلى كثير من العوامل كي تترجم إلى مواصفات فنية وأزمنة تنفيذ مناسبة وبرامج قابلة للتنفيذ بعد انطلاقها، لكيلا تصبح متاهة مملوءة بالعقبات، بالحيتان والغيلان، ودونما نتائج أو نسب إنجاز.. ولكيلا تصبح من عوامل تعقّد الأزمة المركّبة أصلاً، وبعكس المأمول منها.

فالكثير من المتابعين والمهتمين باتوا يخافون مع هيمنة قوى مالية ومتنفذة (بازغة) أن تضيع فوائد ومكاسب عمليات إعادة الإعمار في متاهات الفساد والإفساد، في متاهات الاتفاقات تحت الطاولات ووراء الكواليس. وما تزال نماذج إعادة الإعمار في العراق وقبله في لبنان شواهد حاضرة لا يحب أي وطني سوري أن يقارنها بما يمكن أن تكون عليه الحال في بلده.

فالوضوح والشفافية سمتان يجب توفرهما إضافة إلى السمات العلمية والإنمائية.

من العوامل الإيجابية أن الدولة هيأت البيئة التشريعية للاستثمار عبر قانون جديد وقوانين أقدم، وبإجراءات تنظيمية وفق هذه القوانين، منها دراسة وإعلان الفرص الاستثمارية لمشاريع مدروسة ومدققة، وإيجابيات مرافقة أخرى. لكن ما يزال هناك الكثير من المطلوبات، قانونياً (تشريعياً وتنفيذياً)، وميدانياً .. كذلك هناك طلبات كثيرة، من مشاكل النقل إلى مشاكل الطاقة.. كذلك في المجال العقاري وقانون الاستثمار والتطوير العقاري.

هناك الكثير من المطلوبات يصل تقويمها إلى حد التناقض في تقويم المتوفر تشريعياً وإجرائياً وميدانياً.. تقويم ينوس بين الإيجابية المشوبة بعيوب تنظيمية، إلى السلبية الطالبة لتعديلات جوهرية تأخذ بالاعتبار الأوضاع النقدية والجمركية… إلخ، وذلك بحسب مصالح أصحاب هذه التقويمات أو تلك.

ليس اختصاص هذا المقال تفصيل الإيجابيات والسلبيات في القوانين الناظمة للبيئة الاستثمارية في الواقع الحالي، لأن بيئة إعادة الإعمار كما أراها مختلفة عن بيئة الاستثمار التي رسمتها الأرضية التشريعية من ناحية، وإمكانات التنفيذ الواقعية من ناحية أخرى. ومن ضمن ذلك المجموعات المستفيدة من الانخراط في الاستثمار، أو من مقاطعة الاستثمار وعرقلته. وهذا ما سنشهد مثيله (داخلياً وخارجياً) في مرحلة إعادة الإعمار. بل ويضاف إليه الظروف السياسية المصاحبة للتقاربات الخارجية مع سورية، مدّاً وجزراً.

وهنا نريد الإشارة إلى الهواجس والمخاطر على عملية إعادة الإعمار، التي تحتاج إلى اتفاق القوى المختلفة التي سيقع على عاتقها القيام بمهام هذه العملية. وهي قوى ذات مصالح متقاطعة لكن مختلفة فيما بينها، بسبب التقديرات المختلفة كذلك، لأهمية كل منها ودورها وبالتالي حصتها من هذه العملية.

فالممول والدارس والمنفذ (وهذه اختلافات من زاوية حسن النية) يختلفون عادة في تقدير أهمية كل منهم .. كذلك القوى العاملة أو الموارد البشرية بتنوعها من العمل الذهني بمستوياته، للعمل الحرفي الاحترافي بمستوياته أيضاً، وحتى للأعمال العادية.. التي يجب تقدير حصة كل منهم بشكل عادل.

لكن من هي الجهة المخولة بإقرار الحصص وإحقاق الحقوق؟ وطبعاً الجواب واضح ومحدد من أيام جان جاك روسو .. إنها الدولة ومرجعيتها الدستور.

نعود إلى اختصاص هذا المقال الذي يريد توضيح ضرورات عقد مؤتمر حوار وطني اقتصادي، يجري فيه الاتفاق على أدوار كل من القوى الملمّح إليها أعلاه: الدولة (ممثلة بسلطاتها الثلاث) – الشركات – الصناعيون – التجار – النقابات العلمية  والعمالية – الجامعات ومراكز البحث الاقتصادي … كما يبحث المؤتمر أيّ هوية للاقتصاد السوري تلزم لهذه المرحلة، وما ينعكس من هذا على القوانين الجديدة اللازم إقرارها، أو ما هي التعديلات المطلوبة على القوانين الجديدة، وكل ما يلزم لتنظيم عمليات إعادة الإعمار وقوننتها وتكامليتها وحوكمتها، على كل المستويات الاقتصادية والاجتماعية. وهل ستؤسس شركات عامة للمساهمة في إعادة الإعمار أو يضخّ الدم في شرايين القائم منها، الذي يتوفر على مقومات كثيرة يمكن البناء عليها وتطويرها؟!

إن كل ما لمّحنا إليه في هذه العجالة يتعلق بضرورة الحوار الوطني على المستوى الداخلي. فإذا ألقينا نظرة سياسية اقتصادية على العوامل الخارجية، خاصة في إطار اختصاص هذا المقال حول إعادة الإعمار، فيجب عدم نسيان أنه عند الحديث عن إعادة إعمار بلد مدمر، بعد الحرب التي طالت كل المجالات في سورية، فمن ضرورات عقد مؤتمر حوار وطني بشقه الاقتصادي هو الاتفاق والإعداد لاستقبال الاستثمارات الأجنبية، من كل النواحي. ومن ضمنها: ما هي أنواع المشاريع التي ستخصص للمستثمرين الداخليين (عام وخاص ومشترك)؟ وما هي أنواع المشاريع التي ستعرض أمام المستثمرين الخارجيين؟

إن أجندة هذا المؤتمر الضروري اليوم يجب أن تُحضَّر بالتوازي مع مؤتمر الحوار الوطني الذي يرسم اتفاقات القوى الفاعلة السورية من الجوانب السياسية، كي تبقى سورية الدولة التي يعرفها الجميع بثوابتها الوطنية موقعاً وموقفاً، من الصراع العربي الصهيوني خارجياً، ومن طبقاتها الشعبية داخلياً.

ففي المؤتمر الاقتصادي ترسم السياسات الاقتصادية وتقسم أدوار وحصص عوائد الاستثمار على الطبقات والشرائح الاجتماعية والاقتصادية داخلياً، وكذلك أدوار وحصص عوائد الاستثمار بين المستثمرين الداخليين والخارجيين، كل على قدر مساهمته.

وفي مؤتمر الحوار الوطني الشامل تبحث القوى الفاعلة الاستحقاقات السياسية الوطنية اللازم توفرها لعملية إعادة الإعمار، بالتوازي مع الاستحقاقات اللازمة للخروج من الأزمة- الحرب، لتعود سورية الدولة الضامنة لشعبها بطبقاته الفقيرة والمفقرة، ترفع شعار العدالة الاجتماعية؛

دولة التعددية الاقتصادية بهوية اقتصادية واضحة، والتعددية السياسية عبر الحوار الوطني المستمر والمُمأسس في أشكال متنوعة، في الحكومة ومجلس الشعب ومجالس الإدارة المحلية والمنظمات الشعبية لكل الشرائح التي تمثل مصالحها؛ دولة علمانية ديمقراطية تقف على مسافة واحدة من مواطنيها.

العدد 1107 - 22/5/2024