دور النخب السياسية والفكرية في خلق الانزياحات في بنية المجتمعات وتأثيراتها

محمد علي شعبان:

لا تقتصر الشجاعة والشهامة والرجولة والكرم، على دين أو طائفة أو قومية أو شعب من الشعوب دون غيره. كما لا تقتصر الخسّة والنذالة والتوحش والشراسة على منطقة أو عائلة أو قبيلة أو شعب دون غيره.

لذلك يجب علينا التخلص من ثقافة الاتهام المعممة لاتجاهٍ ما.. وأخذ الاعتبارات الخاصة، في أماكنها المحددة، لعلنا نتعلم التعاطي فيما بيننا، بعيداً عن الانتماءات الضيقة التي فرضت علينا، دون أن تختارها.

وبما أن الإنسان هو انعكاس للواقع الاجتماعي الذي يعيشه، لذلك يظهر عدم التطابق بين البشر ولو كانوا إخوة.

هذا يؤكد وجود تمايز نسبي بين أفراد الأسرة الواحدة، وفقاً لظروفهم الحياتية، المادية منها والمعنوية.

ويلاحظ المهتمون أنه في كل عائلة توجد تناقضات، قد تؤدي إلى خلافات وعنف وتطرف.

ولا يجوز توجيه اتهام عام لأحد دون الإشارة إلى الخاص، كما لا يجوز تعميم الخاص.

ما دام هنالك مستغِلّ ومستغَلّ، وحاكم ومحكوم، ومتسلِّط ومتسلَّط عليه، يصنعون التناقضات ويبنون عليها، ويتحكمون بظروف البشر، وأنماط حياتهم، فالتناقض والصراع سيبقى قائماً لامحالة.. لكن المتسلطين يجيّرونه كما يشاؤون ولا يرغبون في الاعتراف بالحقيقة بشفافية وصدق، بقدر ما يرغبون في تغييبها والالتفاف عليها.. وخلق المبرّرات والذرائع لتبرير تسلّطهم، وطغيانهم!

لذلك يبتعدون عن جوهر الصراع الحقيقي، ويغلّفونه بهياكل طائفية أو مذهبية، أو عائلية أو قومية أو غير ذلك، حسبما تقتضي مصلحة المستغِلّ، فيصبح الفقراء والمحكومين ضحايا جميع الصراعات.

وما دامت أدوات توظيف الصراع متاحة لجميع المستغلين بنسب معينة، لذلك يعملون على شرعنتها، وإيجاد قوانين لإدارتها، بما ينسجم مع مصالحهم الخاصة. فتصبح مادة قابلة للاستثمار، من قبل من يملك القرار ويريد استثمارها.

هكذا نميز بين من يصنع الصراع، وضحاياه.

إن القادة وأصحاب القرار، وحدهم، هم القادرون على الاستفادة من الصراع، على صعيدين اثنين: داخلي، وخارجي.

 

على الصعيد الداخلي، تعمل كل الأجهزة المرتبطة بالسلطة، بطاقتها القصوى، لإضعاف دور الخصوم السياسيين وخاصة المعارضين منهم، واحتوائهم، بأشكال مختلفة، حتى يتم عزلهم وتهميشهم، وتجويعهم. فينشغلون في تأمين لقمة العيش وحاجاتهم الضرورية.

إن تغييب الخصوم السياسيين يقتضي محاصرة أفكارهم، ومحاربتها، وتخويف وترهيب من يتبناها.

وبما أن الفكرة تحارَب بالفكرة، يصبح من الضروري أن تنتج السلطات الحاكمة، مراكز لإنتاج أفكار، تواجه فيها أفكار الخصوم السياسيين.

وهي تعتمد في ذلك على نخبة من المرتزقة، همّهم الوحيد هو الحصول على المال والمكاسب، والمناصب، وعلى رضا أسيادهم المتسلطين، فتصبح هذه النخبة ذات شأن عالٍ نظراً للحاجة إليها من قبل أسيادها.

هكذا تصنع النخب المضللة، وتتحول إلى أدوات بيد وليّ نعمتها، وتمتلك عناصر قوتها بمقدار قوة تضليلها. وتصبح ثقافة التضليل مشروعة ولها من يحميها! وتبدأ الانزياحات المتعددة في المجتمع، التي تؤسس لتناقضات أكثر حدّة وأكثر عنفاً.. سأذكر بعضها:

1-الانزياح بالوعي المجتمعي، الذي يتشكل بشكل مباشر بتوجيه السلطات الحاكمة التي تعتمد على زراعة الخوف من المجهول، عند الغالبية العظمى من البشر. لذلك يصبح أي تغيير مرفوض، ويشكل حالة من الخوف عند البعض تمنعهم من التعبير عن قناعاتهم بشفافية.

لذلك تصبح مقولة (إن الذي تعرفه أفضل من الذي تتعرف عليه) شبه مقدسة عند البعض رغم الملاحظات التي تقال بحق المقولة، وقائلها ومن يتبناها!

2-الانزياح بالوعي الوطني، الذي يتأثر بعاملين اثنين:

أ- الأطماع الخارجية عبر تغلغل علاقات رأسمالية تارة، وطائفية تارة أخرى في بنية المجتمع، تحمل معها ثقافة الترغيب بالهجرة، للعيش في المجتمعات الرأسمالية ورفض المجتمعات التي يجري فيها الاضطهاد والقمع بأشكال مختلفة، وتتموت تدريجيا فكرة الحنين للوطن والالتصاق به، والعمل لأجله.

ب-العامل الداخلي، ويتكون من عدة عوامل، تؤثر في العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وبين المحكومين فيما بينهم، عبر أدوات الحكم المستخدمة، التي تتمتع بصلاحيات خاصة، تطبق من خلالها التمييز بين مواطن وآخر، وبين منطقة وأخرى، تخلق ردّات فعل في المجتمعات المتنوعة طائفياً ومذهبياً وقومياً وغير ذلك من انتماءات ضيقة.

هكذا تبدأ الانزياحات بفعل عوامل داخلية وعوامل خارجية.

3-في أجواء كهذه يظهر فيها التمييز والتفرقة بين مواطن وآخر، وتنتشر فيها حالات الظلم الفردية والجماعية، ينتاب المظلوم شعورٌ القهر والإذلال، ليس بمقدوره تفسير أسبابها طبقياً، لأن معظم مؤسسات الحكم في العالم الرأسمالي تمنع تفسير الظواهر الاجتماعية والإنسانية من منظور طبقي، خوفاً من تشكيل وعي اجتماعي جديد يشكل خطراً على الطبقات المستغلة حيثما وجدت.

 

4-لهذه الأسباب مجتمعة، وأسباب أخرى لم تذكر، ينتشر التذمر، والرفض بين أبناء المجتمع الواحد.

وبسبب انتشار الجهل من جهة، والخوف من جهة ثانية، تنشأ حالات تطرّف خاصّة.

يتمرد فيها الأفراد على كل من حولهم بداية بربّ الأسرة، وانتهاء بالحكومات.

وتتولد ظواهر مجتمعية مخيفة، قد تجد من يستغلها ويرعاها، ليكسب من خلالها، كالهجرة، والإدمان، والسرقة، والتهريب، وغير ذلك من ظواهر غريبة عن مجتمعاتنا.

وكل ظاهرة من هذه الظواهر تجد من يعمل على مأسستها داخلياً، كي تصبح هذه المؤسسات شريكة حتمية في إدارة المجتمع بحكم الواقع الذي فرضته الظروف، التي تعود أسبابها لوجود نخب أنانية محمية من قبل رجال متنفذين موجودين بموقع القرار.

تلك النخب التي أثبتت أنانيتها، واهتمامها الشديد بتحقيق المكاسب الشخصية بالدرجة الأولى، غير آبهة بمستقبل الأجيال ومستقبل الأوطان.

لذلك نجد تناغماً وانسجاماً بين مؤسسات الخراب، التي كانت خلف الانزياحات التي ذكرتها وهؤلاء النخب، وكأن هنالك اتفاقاً ضمنياً غير معلن بينهم، على تجويع عامة الفقراء وحصارهم، والتضييق على كل مواطن يدعو للمساواة والعدالة، وإلى عدم التمييز بين المواطنين على أسس طائفية ومذهبية وقومية وغير ذلك!

5- وبالعودة إلى تلك النخب الموجودة في معظم الأماكن الحساسة، والتي انحدرت من مواقع طبقية مختلفة في المجتمع، نجد أن الغالبية الساحقة منها تنكرت لمنبتها الطبقي والاجتماعي، ولعبت دوراً ملتبساً طبقياً ووطنياً.

لذلك نجد أن جزءاً كبيراً من مؤسسات الدولة التي كانت تشكل ضماناً لمئات العائلات أصبحت عبئاً على ذاتها وليس بمقدورها الاستمرار، دون مساعدة، أو إعانة بمستوى معين.

وبالعودة إلى المقدمة التي أشرت فيها إلى التنوع الموجود ليس في بلدنا وحسب، إنما في معظم الأقطار المجاورة، قد يشكل غنىً حقيقياً يتحول إلى ثروة وطنية تنهض الدول والمجتمعات من خلاله وترتقي.

وقد يتحول هذا التنوع إلى قنابل موقوتة يمكن تفجيرها أينما أراد المتحكم فيها.

لذلك لابد لنا من إجراء مراجعة أولية للعديد من القضايا الأساسية.

ومن أهمها الإجابة عن عدة أسئلة، نستطيع من خلالها التأكيد على أن التشارك والتشاور بين النخب الاجتماعية والسياسية والفكرية، بغية معالجة العديد من الملفات، هو الطريق الأكثر سلامة للجميع.

ومن التشارك تبدأ المسؤولية الوطنية ببلورة وتقديم الكفاءات التي تمتلك المعرفة والمقدرة للعطاء اللازم، لبناء مجتمعات أقلّ تناقضاً، وأكثر انسجاماً، وتناغماً.

ومن التشارك أيضا تبدأ بالتلاشي ظاهرة التمييز والمحسوبيات.

فهل أمام مجتمعاتنا خيارات اخرى؟

أعتقد أن الأزمات الاقتصادية والمعاناة المتنوعة التي يعيشها المواطن على كل الأصعدة وصلت إلى حدود قاسية جداً، لا يمكن تحمّلها.

لذلك لابد من التفكير جدياً بتشكيل ورشات عمل حقيقية، تمتلك الكفاءة، والقدرة. مؤتمنة على الوطن، والمواطن. تعمل على دراسة أسباب الفقر لغالبية المجتمع، المترافق مع ثراء ملحوظ لعدد قليل من المجتمع، وتبحث في الأسباب التي كانت خلف تراجع الزراعة والثروة الحيوانية في بلادنا، ومحاسبة المقصرين منهم.

كما يجب إعادة النظر بجميع السياسات التي اتبعت خلال العقود الماضية وساهمت بمزيد من الإفقار، بعد الإهمال المتعمد للقطاعات الإنتاجية المتعددة التي شكلت الضمان الأساسي لبلداننا عبر مئات السنين.

إن السياسات التي أفقرت البلاد، وجوعت الغالبية الساحة من المجتمع، ودفعت جزءاً كبيراً من الأجيال الشابة للهجرة خارج البلاد، لا تستحق المكافأة على ما فعلته، بل يجب أن تحاسَب وتكون عبرة لمن يحل محلها.

وهذا لا يمكن إنجازه دون تغيير حقيقي بمجمل السياسات والأنظمة والقوانين، التي أوصلت البلاد إلى ما هي عليه، والاستعاضة عنها بقوانين وسياسات إنقاذية تعتمد المشاركة، والمحاسبة.

ولنا في العالم العديد من النماذج الناجحة التي يمكن الاستفادة منها، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ووقف التدهور الذي يزداد يوماً بعد يوم.

فالأبنية التي تشيّد بالتشارك والمحبة تدوم طويلاً.

++++++++++++

  • بسبب انتشار الجهل من جهة، والخوف من جهة ثانية، تنشأ حالات تطرّف خاصّة
  • التشارك والتشاور بين النخب الاجتماعية والسياسية والفكرية، بغية معالجة العديد من الملفات، هو الطريق الأكثر سلامة للجميع
  • يجب إعادة النظر بجميع السياسات التي اتبعت خلال العقود الماضية وساهمت بمزيد من الإفقار
العدد 1105 - 01/5/2024