ما زال الموروث التقليدي يُقيّد النقد والتفكير الناقد

إيمان أحمد ونوس:

ما زال مفهوم النقد في مجتمعاتنا كافة مفهوماً غائماً وغائباً عن تفكير الغالبية، ذلك أنه مفهوم يعتمد الجرأة في نقد كل ما هو سلبي ويعيق تطور الحياة الإنسانية بمختلف مناحيها واتجاهاتها سواء للفرد أو المجتمع، من خلال ما يُعرف بـ(النقد والنقد الذاتي)، حتى إن بعض من يعتمدونه في حياتهم أو عملهم مهما كانت صفته يطلقون عليه صفة (النقد البنّاء) أي الذي يسعى إلى هدم كل ما هو غير مُجدٍ أو بالٍ في المفاهيم والقيم بمختلف تنوّعاتها (اجتماعية، تربوية، دينية، سياسية، ثقافية.. الخ) ومن ثمّ إعادة بناء هذه المفاهيم على أُسس حديثة ترتقي بالمجتمع إلى مستويات التطور والتحضّر.

غير أن مفهوم النقد لاقى اهتماماً واضحاً في العديد من الدراسات الاجتماعية والسياسية وغيرها لاسيما في ظلّ نشوء ما يُعرف بالحداثة والمُعاصرة، وضرورة النظر إلى أنفسنا وأسباب تخلّفنا كمجتمعات وأفراد من خلاله كمبتدأ ضروري جداً لأجل النفاذ إلى كل ما يعيق تطورنا، فبات تناوله من قبل المثقفين والأدباء والسياسيين وسواهم لافتاً إلى درجة أثارت العديد من النقاشات والآراء الداعية بشكل أو آخر لاعتماده في حياتنا، ومن ثمّ معرفة الآثار المُترتّبة عليه على مستوى الأفراد والمجتمع بمختلف هيئاته وتشكيلاته. ولهذا رغبت بتناوله اليوم في ملفّنا الاسبوعي بناءً على سؤال طرحته الصديقة د. شيماء تركي، من أجل إحداث نقلة في تفكيرنا الداعي إلى اعتماد تنمية مهارات التفكير الناقد لدى الأجيال الناشئة، وما يترتّب عليه لاحقاً، خاصة أن العديد من الآباء المثقفين يسعون إلى اعتماد ثقافة تربوية قائمة على بناء شخصية الأبناء ومحاولة تنمية العديد من المهارات التي افتقدت إليها التربية التقليدية السائدة، والسؤال المطروح يقول:

(إلى من ينادي بتربية الأجيال الجديدة على مهارات التفكير الناقد، هل نحن مستعدون حقاً لمواجهة مُخرجات هذه التربية في مجتمعاتنا مُغلقة الثقافة سواء على مستوى التربية والعلاقة ما بين الآباء والأبناء، أو باقي العلاقات الاجتماعية الأخرى؟).

لا شكّ أن الآباء في سعيهم لتربية أبنائهم تربية لائقة وراقية يطمحون بذلك لبناء شخصية قوية واعية ومنسجمة إلى حدٍّ ما مع مختلف القيم الإيجابية السائدة في المجتمع، وتدعيمها بقيم جديدة تتوافق مع ما هو مطلوب في عالمنا المعاصر والحداثة التي فرضت أنماطاً جديدة من القيم التربوية القائمة على أساس احترام الآخر والحق في الاختلاف معه كضرورة من أجل النهوض بالذات والآخر والمجتمع، إضافة إلى محاولة تربية الأبناء على مهارات التفكير العلمي والناقد، بدل الانصياع والاستلاب التلقائي لما هو سائد اجتماعياً من موروث ديني أو اجتماعي دون أدنى تفكير بأسبابه ونتائجه، التي لم تعد تتوافق مع الحاضر بقيمه ومفاهيمه الحديثة والمتطورة، الساعية إلى الارتقاء بالإنسان إلى مستوى يليق بإنسانيته وفكره ووعيه. وهناك بعض الأمثلة، على ندرتها، عن تلك التربية التي أنشأت أفراداً وأبناء يحملون نسغها الحديث.

لكن يبقى السؤال المطروح أعلاه قائماً حتى عند تلك الأمثلة النادرة، عن كيفية التعامل مع الأبناء عندما يصبحون قادرين على مواجهة الآباء حين تكون هناك ضرورة للمواجهة، ذلك أن غالبيتنا ما زال يحمل رواسب قيم وثقافة متخلّفة ومتوارثة رغم محاولته الفكاك من شباكها، إضافة إلى استمرار نظرتنا إلى الأبناء على أنهم ما زالوا أطفالاً وأقلَّ خبرة وتجربة، ونحن أكثر وعياً وفهماً منهم لما تقتضيه الحياة دون النظر إلى أنهم أصبحوا كباراً ويمتلكون من الثقافة والوعي والتجربة ما لا نمتلكه نحن الآباء، رغم أننا من زرع في شخصياتهم السمات التي سعينا لمنحهم إياها، وهنا يستمر الخلاف مثلما يستمر صراع الأجيال بالتأجج الذي يقود إمّا إلى المشاحنات الدائمة، أو إلى القطيعة في بعض الأحيان وتجنّب التعامل معهم في أفضل الحالات.

إن هذه الحال ناتجة بالتأكيد عن عدم امتلاكنا ثقافة النقد والنقد الذاتي، سواء على مستوى الأفراد أو الهيئات المجتمعية بمختلف أطيافها وشرائحها، وهنا ما دمنا مستمرين بافتقادنا لهذه الثقافة أو رفضنا لها لا يمكن أن تأتي نتائج تربيتنا المأمولة بالشكل المطلوب، ولا يمكن أن تغدو تلك التربية أساسية في ثقافتنا التربوية التي تتوارثها الأجيال. وبالتالي فإن ما ينطبق على التربية الأسرية، بالتأكيد ينطبق على باقي الهيئات والمؤسسات المجتمعية الدينية والسياسية والتعليمية وغيرها، ولنا في الواقع أمثلة كثيرة على رفض التفكير الناقد تحت ذرائع وحجج غير مقنعة لمن يريد فعلاً للعلاقة المتبادلة مع الآخر أن تكون علاقة قائمة على الندّية والنقد واحترام الآخر حتى في لحظات الاختلاف معه. وبالتالي لا يمكننا الخروج من شرانق التخلّف المُتشبّثة في عقولنا وثباتنا على قيم موروث اجتماعي أو ديني وثقافي متخلّف، إن لم نعتمد أو لم نتعامل مع الواقع بكل حيثياته من خلال النقد وتنمية التفكير النقدي ليس فقط للأبناء وإنما لكل المسؤولين عن قيادة المجتمع والدولة، وذلك من أجل بناء دولة مدنية قائمة على أُسس علمية وحقوقية يشعر الجميع فيها بالمساواة والمواطنة الحقيقية الصرفة.

+++++++++++++++++++++++

  • ما دمنا نفتقد لثقافة النقد والنقد الذاتي لا يمكن أن تأتي نتائج تربيتنا المأمولة بالشكل المطلوب
  • أن تكون العلاقة مع الآخر قائمة على الندّية والنقد واحترام الآخر حتى في لحظات الاختلاف معه
العدد 1104 - 24/4/2024