لا سبيل سوى ردم الهوّة

يونس صالح:

تبدأ التنمية الشاملة بالتخطيط، هو يبدأ من الذات وينتهي بالذات.. لكني أرغب أن أقف فقط عند جذر هذه الموضوعة، عند المنبع، وأقصد التخلف الثقافي، والتخطيط للتخلص منه، وأعتقد أننا يجب أن نبدأ من هنا.

إن ردم الهوة المتزايدة في السعة والعمق إنما يبدأ بتغيير المفاهيم الأساسية التي يقوم عليها الفكر، عبثاً نصطنع العلم، إن لم نؤمن مسبقاً أنه الطريق، وأن المعرفة هي القوة، وعبثاً نحاول الديمقراطية، ونحن ما نزال ننتظر الديكتاتور العادل، فلا يمكن اصطياد عصفور واحد وعلى العينين عصابة، وعبثاً نصرخ لإصلاح الاقتصاد، وما زلنا نعيش على الاستيراد، ولا يمكن التخلص من البؤس بمجرد الهتاف للثورة.

إن ما نشهده اليوم من التراكم العالمي الهائل، يضعنا بالرغم منا على أبواب عصر مختلف. لقد تغيرت صور الكون، وانقلب التوازن العلمي والتقني القديم كمّاً ونوعاً وسرعة، وبخاصة في (الإلكترونيات الدقيقة وتطبيقاتها، وفي المضادات الحيوية، وفي هندسة المكونات الوراثية، وفي تكييف الحياة العقلية بالعقاقير، وفي أبحاث الذرة وتطبيقاتها، وفي أبحاث الفضاء وتقنية الصواريخ ومركبات الفضاء، وفي الأتمتة، وفي أبحاث الاتصالات، وثورة المعلومات).. وامتد هذا الانقلاب كله إلى ما وراء العلوم البحتة، وشمل العلوم الاجتماعية والإنسانية والاقتصادية.. كل ذلك في مدى زمني لا يزيد عن نصف قرن، وهذه الفترة من التطور تعادل من حيث مداها مجمل ما تطورت به البشرية طوال وجودها.

وإذا كان الفكر المستقبلي علمياً بالضرورة، فإن هذه المقولة تعني الكثير، إنها تعني أولاً أن من يملك العلم في المستقبل، أي يملك المعلومات وتقنية استخدامها، يملك العالم، وثانياً، إن إقامة العلم كقوة حية نشطة في المجتمع هي جزء من مشكلة التحول من الأمية الحضارية إلى التنمية الشاملة، وذلك لا يكون بنقل العلم، ولكن بنقل المنهج والطريقة، وثالثاً، إن تغير الثقافة عندنا نوعياً، شرط ضروري لقيام الحركة العلمية على قاعدة متينة واسعة من الفكر والفهم والاستيعاب للعصر، ورابعاً، إن هذا التغير لا يكون إلا بإحداث ثورة ثقافية، أي بربط ثقافتنا مع العصر عن طريق العلم والتقنية.

إن العلم ليس معرفة فقط، بل أسلوب في الفكر بنقله من تجريد الطبيعة إلى تجريبها، ومن سكونية الوجود إلى حركية الوجود، ومن الغيبية إلى السببية، وخامساً، إن عملية كسب العالم ونقل التقنية لا تكفي، لأن هذين النشاطين ليسا ثابتين ولا كمّيّين، إنهما في حركة دائمة متطورة تطوراً سريعاً من جهة، ويحتاجان إلى توفر مجتمع علمي مواز يستطيع المتابعة لهما، والمشاركة فيهما والإسهام في الابتكار من جهة أخرى.

إن اقتصاد الغد ومؤشراته ظاهرة في اقتصاد اليوم، وسوف يقوم كثقافة الغد سواء بسواء على التقنية الحديثة. إن اقتصاد القرن العشرين قد انتهى، والتحدي لم يعد قضية علمية ثقافية، ولا قضية سياسية ولكنه مسألة بقاء.

من هنا صار التفكير في مستقبلنا ككل يفرض نفسه فرضاً، ولا بدّ من التفكير في الوسائل وفي الأسس الأولى للتحرك. إن المخططين لا يمكن أن ينطلقوا من فراغ، ولابد من التخطيط لوسائل الوصول بقدر التخطيط لأهداف الوصول.. فهل ترانا نستطيع اقتراح بعض الخطوط؟ قد يكون بعضها معاداً يمكن وضعه لإكمال الصورة، أما بعضها الآخر فمشتق من رؤية للغد مرعبة، وهل يجدي الرعب وحده؟ إننا أمام تحديات كبيرة أولية من ملامحها:

* سدّ منابع الأمية بالمعنى الحضاري، أمية تضعنا في أسفل السلم، رغم كل الجهود التي بذلت، والنفقات التي صرفت.

* اتخاذ جميع السبل لتكثيف الثروة البشرية العلمية وربطها لا بالأرض فقط، ولكن بالثروة المادية للأرض، ولابد من اتساع القاعدة العلمية التقنية وبمختلف الدرجات. إن ثروتنا البشرية مهدورة، وما ينفتح منها هو العصافير المهاجرة.

* دعم خبرات الترجمة، والاتجاه إلى تقنية المعلومات، فالكتاب لم يعد كافياً. إن المعلومة أضحت رأسمال الغد، وطرائق الحصول على المعلومات أصبحت سبل العلم الأولى.

* الاتجاه إلى تقنية الاتصال والإعلام. إن القسم الأعظم من ثقافة الغد سوف تأتينا عن طريق وسائل الاتصال. إن كل ذلك يقتضي وجود الأجهزة البشرية التقنية بجوارها، ووجود الإنتاج الجذاب الآسر الذي يبعد منافسة وسائل الاتصال الأخرى.

من دون كل ذلك تكون الثورة الثقافية التي نرجو عبثاً في عبث.

لقد طال الحديث، وما ذُكر ليس إلا بعض الخطوات الضرورية للبدء بأي تخطيط للغد، ولكنها ملامح نقتطفها على الطريق.

ثورة العلم والتقنية وضعتنا بالرغم منا أمام التحدي الجذري، هل نشعر بدوران الأرض؟ ولكنها تدور بالفعل، وتدور معها قوى العلم، ولا سبيل إلا إدخال الرأس في هذا الدوران لنستطيع اجتياز القرن الحادي والعشرين، دون أن يصيبنا الدوار العاصف ونسقط على الهوامش الإنسانية البعيدة.

ليس من عودة إلى عقلية التواكل القديم، ولا إلى الاعتماد على التدخل الإلهي للإنقاذ، إن ردم الهوة هو الخيار الوحيد، وإن يكن الخيار الصعب، ولكن هل من سبيل غيره؟ هل من سبيل؟!

 

العدد 1104 - 24/4/2024