ثقافتنا والتعصّب

يونس صالح:

تعود غلبة التعصّب في ثقافتنا العربية إلى عوامل سياسية ودينية واجتماعية وثقافية، ومن الموجع أن يكون التعصب أكثر تجذّراً في أبنيتنا الثقافية، وفكرنا الديني الذي هو من صنع البشر، وعاداتنا الاجتماعية، وتياراتنا الفكرية، وأخيراً حياتنا السياسية التي لم تتجذر فيها قيم التسامح السياسي التي تعني التعدّدية واحترام حق الاختلاف إلى اليوم.

ويبدو أنه لابد لنا من أن نلاحظ، في هذا السياق، اختلاف نشأتَيْ مفهومي التسامح والتعصب ومسيرتهما في ثقافتنا العربية. لقد نشأ التعصب عند العرب نشأة اجتماعية وليس دينية، كما حدث في أوربا، وذلك داخل المدار المغلق للقبيلة، ثم أصبح التعصّب دينياً مع الصراعات السياسية التي اتخذت الدين غطاء لها، وتزايدت ملامحه الدينية في مؤازرة تصاعد ظاهرتين: أولاهما فكرية، وتتصل بمحاربة النزعات العقلانية وإغلاق أبواب الاجتهاد من قِبل تيارات الاتباع النقلية الجامدة، التي جعلت التقليد شعاراً لها وعلامة عليها. وثانيتهما سياسية، وتتصل بطبائع الاستبداد التي لاتزال تجد ما يدعمها في بنية المجتمع البطريركي.

هكذا تجذّر التعصب في ثقافتنا، ولم تفلح محاولات الإصلاح الديني الحديثة في استئصاله، ولا في زعزعة أصوله الراسخة. وهو الأمر نفسه الذي ينطبق على تيارات الفكر العقلاني، التي لاتزال مهمّشة ومحاصرة بكبت الحريات السياسية وقمع الحريات الفكرية، والنتيجة هي الأزمات الطاحنة التي لاتزال تعصف بها، واقترنت بالإرهاب السياسي الديني البشع الذي لانزال نعاني كوارثه وجرائمه، التي لن تنتهي في المدى القريب، ولن ينتهي معها التعصب الذي هو أصل الإرهاب والفساد السياسي والجمود الاجتماعي.

باختصار، التخلف الذي لن نبدأ في القضاء عليه جدّياً، إلا بوعيه، ووضعه موضع المساءلة والكشف الذي يبدأ بتعرية لوازم التعصب، وتتبع جذوره وأصوله وتحولاته.

ومن هذا المنظور يمكن القول إن للتعصب أنواعاً، يبدأ بالتعصب الديني الذي تحتكر معه فئة من الفئات ما تراه التفسير الأصح للدين والفهم الأسلم له، فتختزل الدين في تأويلها الذي تحتكره والذي يغدو سنداً لها، سواء في دفاعها عن احتكارها له، أو في الانتقاص العدائي من شأن أيّ تأويل مغاير.

ويقودنا ذلك إلى التعصب السياسي الذي يقترن بالدولة التسلطية، وهي الدولة التي تحتكر مصادر القوة والسلطة في المجتمع، لمصلحة الطبقة أو النخبة الحاكمة، وتخترق المجتمع المدني لتحيل مؤسساته إلى مؤسسات تابعة، تعمل بوصفها امتداداً لأجهزة الدولة، وتخترق النظام الاقتصادي وتكرّسه لمصلحتها، بما يحقّق هيمنتها البيروقراطية على الحياة الاقتصادية. وطبيعي أن تنبني شرعية الحكم في هذه الدولة على استعمال العنف أكثر من الاعتماد على الوسائل الشرعية والمعايير الدستورية.

كما يقودنا ذلك أيضاً إلى التعصب الاجتماعي الذي يجمد معه المجتمع على العلاقات التي تربط كل فئة من فئاته وتمايزها عن غيرها من الفئات داخل البناء الاجتماعي الهرمي الشكل، وفي إطار التمييز الصارم الذي ينفي (الحراك الاجتماعي) ويستأصله، فتغدو العلاقات ثابتة بين الفئات المتراتبة، وجامدة لا سبيل إلى تغييرها، ويحمي ثباتها حراس القيم والأعراف المقترنة بالتراتب والمبقية عليه.

ثم يقودنا كذلك إلى التعصب الثقافي، حيث لا تفارقه لوازم النزعة الماضوية، وهي صفات تجعل من الإنسان المتعصب ذا بعد واحد، لا يتوقف عن محاربة المخالفين له، ويعدّ كل اختلاف معه أو عنه عداء، يستوجب استئصال الفاعلين له، مؤمناً في أعماقه أنه يدافع عن الحق المطلق الذي يزعم مخالفته، ويقاتلهم بحماسة الإيمان الذي يتحول إلى (دوغما) مقدسة.

وأخيراً من الضروري الانتباه إلى أن التعصب لا يزدهر وحده، ولا يقوى في عزلة عن غيره، فهو سبب ونتيجة لعدد من العوامل المتفاعلة، التي تؤدي إلى ظهوره، واستفحال أخطاره، سواء في المجال الذي يقترن به، دينياً أو سياسياً أو اجتماعياً أو فكرياً وثقافياً، أو المجال الذي لا يقوى إلا بغيره في المجالات التي يفضي كل منها إلى غيره، ويتبادل معها التأثر والتأثير، ولذلك لا يقوى التعصب الديني إلا في ظل هيمنة أنواع الاستبداد السياسي، استناداً إلى القاعدة التي تقول: الملك بالدين يقوى، والدين بالملك يبقى، وما أكثر شواهد التاريخ التي تتضافر فيها نوازع التعصب الديني والثقافي والفكري والاجتماعي مع غيرها من النوازع المتماثلة في الآلية، والمتشابهة في العقلية، الأمر الذي يجعل من التعصب الديني لازمة من لوازم الاستبداد السياسي، ويقرن الاستبداد السياسي بالعصبية الاجتماعية والتعصب الفكري أو الثقافي، حيث العلاقة وثيقة بين الجميع إلى الدرجة التي تقودها إلى حال من الاتحاد، فيتبادل كل طرف التأثر والتأثير.

 

العدد 1104 - 24/4/2024