خريطة جينية لغير جنسنا

د. أحمد ديركي:

نعم، هموم الإنسان العربي أكبر من هموم أي مواطن في بقية أنحاء العالم. هموم تلاحقه منذ بدايات تشكيل الكيانات السياسية بحدودها الجغرافية بعد تفكك الامبراطورية العثمانية. فهناك همّ تفكّك النظام السياسي وتشكّله، ومفهوم تشكل الدولة والضياع ما بين الدولة_ الأمة، والأمة في دول، همّ الاستقلال والتحرر من الاستعمار، بلغة منمقة الانتداب، الفرنسي والبريطاني، همّ اللحاق برَكب المعرفة العلمية المتطورة في ظل مجتمعات مفتتة تغلب عليها نسب أمية مرتفعة، وحتى بعض المتعلمين أمّيون لتخلّف النظام التعليمي، همّ الخروج من المأزق الاقتصادي والتحول من نظام تبعي إلى نظام مستقل، همّ الحريات العامة والديمقراطية والخروج من العصبية الخلدونية الحاكمة للأنظمة العربية ومجتمعاتها، همّ الحروب الأهلية المتكررة كل برهة، همّ الاحتلال الصهيوني لفلسطين، وألف همّ وهمّ.

لن نذهب إلى مقاربة الهموم وأسبابها، فهذا بحاجة إلى وقت وجهد تتوافر ظروف مقاربتها، وكل الظروف غير مواتية للمقاربة بغض النظر من أي جهة أتت.

لكن الأمر اللافت للنظر مسألة البقاء في قوقعة تجاهل المعرفة (عن سابق إصرار وترصد)، أي تجاهل المعرفة بشكل مقصود، ولهذا التجاهل المقصود مبرراته وأهدافه.

لن نذهب بعيداً في الأمور والتحليل، بل سنحاول معرفة من فاز بجائز نوبل لعام 2022.

طبعاً هناك الكثير والكثير من الملاحظات حول هذه الجائزة وبخاصة عندما تتعلق الجائزة بقضايا السلام والأدب! فهذه أمور مسيّسة بامتياز، تمنح وفقاً لأهداف سياسية واضحة. لكن بالنسبة للأمور العلمية وإن كان هناك بعض الانتقادات حول الموضوع إلا أن المسائل العلمية تفرض نفسها ومصداقيتها.

منحت جائز نوبل لعام 2002 في الطب للعالم السويدي سفانتي بابو. ما قام به بابو بعيد كل البعد عن أفكارنا لأسباب (تحريمية) لا يجوز الحديث عنها! وتعود مسألة التحريم في مقاربة ما أثبته بابو إلى الفكر القدسي المهيمن على كل أنماط حياتنا اليومية من الاجتماعي إلى الاقتصادي وصولاً إلى السياسي.

المسألة متعلقة بالأسئلة الفلسفية الأساسية مثل ما أصل الإنسان؟ سؤال طرحته البشرية على نفسها منذ زمن طويل وحاولت الإجابة عنه وفقاً لتطورات العلوم والأفكار. إلا أن الإجابة عنه في عالمنا العربي وقفت عند الفكر القدسي ومسألة الخلق. وقف الزمن في هذه المسألة هناك وما زال يقف في مكانه.

تطورت العلوم، بكل تفرعاتها، وأتت نظرية داروين (النشوء والارتقاء)، واستكملت تطورها مع تطور فرع البيولوجيا والطب، وحذف منها ما هو غير متوافق مع العلوم الحديثة وأضيف إليها ما يتوافق معها، وما زال البحث جارياً حول الموضوع وفي الموضوع.

ما اكتشفته العلوم الحديث أن الإنسان الحالي ويطلق عليه اسم (الإنسان العاقل) مجرد أحد أجناس البشرية. فقد وُجد العديد من الأجناس البشرية ما قبل هذا (الإنسان العاقل) وجميعها انقرض ولم يبقَ سوى (الإنسان العاقل). لماذا انقرضت بقية الأجناس البشرية وبقينا نحن مسألة ما زالت في طور البحث العلمي. لكن ما أثبته العلم أن الانسان العاقل وجد في زمن وجود أكثر من جنس بشري آخر وأشهرهم النياندرتال، جنس بشري. فقد تزاوجنا معه ونحمل العديد من جيناته الوراثية، ما يقرب 4% من جينات الإنسان العاقل هي جينات النياندرتال.

ما قام به بابو هو رسم الخريطة الجينية للنياندرتال، وطبعاً هذه ليست بالعملية السهلة، وعمل على جنس بشري آخر منقرض اسمه (دنيسوفا). فقد تزاوجنا مع النياندرتال بعد أن هاجر جنسنا من إفريقيا منذ ما يقرب 70000 سنة مضت.

نال بابو جائزة نوبل للطب هذا العام لرسمه الخريطة الجينية لبشر النياندرتال، ونحن ما زلنا عالقين في سجن فكرة خلق قدسي غير قابلة للنقاش. وكل من يطرح فكرة الخلق خارج إطارها القدسي، حتى في الكتب الدراسية العلمية تطلق عليه كل صفات القدح والذم، إن توقفت المسألة عند إطلاق الصفات ولم تصل إلى حد هدر دمه! فكيف لنا أن نخرج من أحد همومنا ونحن عالقون في سجن الفكر القدسي؟!

العدد 1105 - 01/5/2024