حديقة السبكي.. هل سيمرّ (بيعها) للمستثمرين بصمت؟!

حسين خليفة:

هو اسمها المتعارف عليه شعبياً، حديقة السبكي، أما الاسم الرسمي الذي لم يدخل في التداول حتى في الكتب الرسمية والمراسلات سوى في لوحة وضعت على باب الحديقة فهو (زنوبيا).

تسمية السبكي جاءت نسبة إلى شيخ الإسلام تقي الدين السبكي الذي قضى شطراً من حياته في دمشق، وكان يلوذ ببستان قاضي القضاة الذي سمّي باسم الشيخ العلامة قبل أن يتحول إلى حديقة بالاسم نفسه، ثم سمّته الدولة باسم ملكة تدمر العظيمة زنوبيا.

الحديقة تقع في منطقة هامّة قريبة من وسط العاصمة، تتوسط أحياء الشعلان وأبو رمانة والروضة، وتُشكّل متنفساً لسكان الأحياء المذكورة، وللقادمين إلى وسط المدينة وأسواقها للتنزّه والاستراحة، وتنسّم الهواء العليل نسبياً في مدينة تجاوز التلوّث فيها المعايير العالمية بأشواط كبيرة.

قصة (بيع) هذه الحديقة مع عدة حدائق في دمشق لمستثمرين يلهثون خلف الربح، وإن كان ثمنه استئصال رئات المدينة المحتضرة أساساً، قصة قديمة تعود إلى عام 2008 حين عهّدت محافظة دمشق عدّة حدائق في دمشق لشركة خاصة بغاية إقامة مرائب طابقية تحت الحدائق، ووقّعت مذكّرة تفاهم مع إحدى الشركات لبناء 11 مرآباً تحت الحدائق والساحات العامة، مثل حدائق الصوفانية والسبكي وعرنوس وطلائع البعث في المزة والبرامكة، وتوقف هذا المشروع خلال الأزمة.

وكعادة أسيادنا فقد تُركت مواد في الاتفاق مطاطة تتيح للمستثمر تحويل الحديقة إلى مجرّد كتل بيتونية من أكشاك و(مولات) ومطاعم تبقى بعض الشجيرات اليتيمة بينها تشهد على اغتيال حدائق هي ذاكرة المدينة ورئتها.

لننظر ما حصل من اغتيال في وضح النهار لمدينة المعارض القديمة الممتدة من ساحة الأمويين الى جسر الرئيس، كيف تحولت من منطقة خضراء ظليلة تحمل ذكريات ليالي المعرض وحفلات فيروز وأم كلثوم وفسحات أهل الشام، إلى أبنية قبيحة لم تستكمل، ومناطق جرداء، إرضاءً لمستثمرين ومتنفذين يريدون ابتلاع كل ما يشي بالحياة في المدينة لزيادة ثرائهم وبطرهم.

والحجج هنا أيضاً كانت هي هي، استثمار مع الإبقاء على المساحات الخضراء، وأي مساحات؟!

حينذاك باشرت المحافظة ببدعة إزالة أسوار الحدائق بحجج واهية تفتقد إلى الإقناع، ثم بدأت بقطع أشجار معمرة منها عمرها أكثر من مئة عام تمهيداً لإنهاء العقود مع الشركاء والبدء بتجريف ما تبقى من ذاكرة لبناء مولاتهم ومطاعمهم، وترك الإسفلت ملاذاً وحيداً لفقراء المدينة والوافدين إليها.

لكن اندلاع الأزمة الوطنية الكبرى عام 2011 أوقف العمل إلى حين، حتى جاء عام 2016 وأكملت المحافظة ما بدأ به المتعهد في حديقة السبكي بتشويه متعمّد قضى على بعض الأشجار المعمّرة، والسور، وسور بحيرة البط، وتحويل الملجأ إلى استثمار تجاري.

وبموجب قرار من المكتب التنفيذي لمحافظة دمشق خلال اجتماع استثنائي بتاريخ 5/12/2018 تم على عجالة نقل ملكية حديقة الطلائع بالمزة إلى شركة دمشق القابضة، وهي شركة (مساهمة) يسيطر عليها حيتان المال والمتنفذون الذين يعرفهم السوريون بالاسم.

وقبل ذلك مهّد المرسوم التشريعي رقم 19 لعام 2015 فقرّر السماح بـ(إحداث شركات سورية قابضة مساهمة مغفلة خاصة، بناء على دراسات اجتماعية واقتصادية وتنظيمية، بهدف إدارة واستثمار أملاك الوحدات الإدارية أو جزء منها). وبموجب المرسوم المذكور تأسّست شركة الشام القابضة عام 2016، ثم نُقِلَتْ إليها ملكية بعض الأملاك العامة والمستملكة للدولة لتقيم عليها مشاريعها الكبرى مثل مشروعي (ماروتا سيتي) و(باسيليا سيتي) اللذين أقيما على أنقاض بيوت الناس في مناطق كفرسوسة والقدم التي دمّرتها الحرب، ثم أجهز على ما تبقى منها جشع أصحاب المال والنفوذ لإقامة مدن خاصة بهم لا يحلم فقراء سورية بمجرّد الدخول إليها إلاّ كخدم وعمال.

ثم أعلنت (محافظة دمشق) عام 2020 عن طلب عروض لإنشاء واستثمار مرآبين للسيارات تحت حديقتي الطلائع بالمزة بمساحة 40 ألف متر مربع، وحديقة المدفع بالروضة، وذلك وفق نظام BOT، وهي بروفة لبقية الحدائق القائمة في دمشق.

وبحسب الإعلان الصادر عن المحافظة، فإن المدة المقررة للاستثمار هي 25 سنة بدءاً من اليوم التالي لتوقيع المستثمر واللجنة المختصة على استلام موقع المشروع، مع تحديد مدة 730 يوماً لتنفيذه بشكل كامل.

محافظ دمشق السابق عادل العلبي وضّح خلال اجتماع لمجلس محافظة دمشق عام 2020، أن المحافظة ستطرح مرآب حديقة الطلائع للاستثمار قريباً، بعد الانتهاء من إعداد دفتر الشروط الخاص بهذا المشروع.

وأوضح العلبي، أنه سيتم السماح للمستثمر بإنشاء (طابق تجاري) أسفل الحديقة، وعدة طوابق تحته تستخدم كمرائب، وذلك لتحقيق عائد مالي جيد ممّا يشجع المستثمرين على التقدّم للمشروع.

وأضاف إن هناك عدّة حدائق أخرى يتم العمل على وضع دفاتر شروط لها لطرحها للاستثمار قريباً، ومنها حدائق الصوفانية والمدفع وابن عساكر، مبيّناً أنه من شروط التنفيذ إعادة الحديقة بـ(أفضل مواصفات ممكنة) سواء من جهة النباتات المزروعة أو الألعاب المخصّصة للأطفال.

لاحظوا العبارات التي تحمل الشيء ونقيضه، مثل (إعادة الحديقة بأفضل مواصفات ممكنة)، وحين ينتهي العمل وتصبح الحديقة مرتعاً لمشاريع أثرياء الحرب والمتنفذين، سيقولون إنّ هذا هو الممكن، سيتركون مسطّحات خضراء أقرب إلى ممرات تزرع بعشب الكازون مع نباتات مستوردة بديلاً عن الشجر والفسحات الخضراء.

في رسالة مفتوحة من السيد تحسين الفقير، وهو مغترب دمشقي، ومؤسّس وصاحب فكرة جمعية أصدقاء حديقة السبكي المسجّلة رسمياً إلى السيد محافظ دمشق الحالي يقول:

)علمنا من السيد بسام الأيوبي بعد لقاء قام به مع سيادتكم، وقد نشره على صفحته وعلى بعض وسائل التواصل الأخرى بأن مشروع بناء مرآب للسيارات ومولات الخ.. أربعة طوابق تحت الأرض قد عاد للظهور كبعبع رهيب لمُحبي الحديقة والبيئة).

وفي سياق رسالته يعرض أكثر من حل لتخفيف مشكلة الاكتظاظ المروري في دمشق، منها أن يتركوا الحدائق للناس كذاكرة خضراء للمدينة ومتنفس لأهلها، والاستفادة من الساحات والأبنية الكبيرة لإنشاء مرائب طابقية تحتها، أو الاستفادة من مدينة المعارض القديمة التي تم إبادة شجرها لذلك الغرض وهي ذات مساحة كبيرة، وقريبة من مركز المدينة.

أو فرض ضريبة بسيطة على كل سيارة تدخل المدينة، مع تأمين وسائل نقل جماعية لتشجيع أصحاب السيارات على عدم الدخول بسياراتهم إلى المدينة، وتخفيف الازدحام والتلوّث كما هو الحال في كثير من المدن الأوربية.

لكن مسؤولينا يبحثون دائماً عن أيسر الحلول وأربحها لهم، فالأسهل لهم وللمتنفذين من الأثرياء الجدد أن يحرثوا ما تبقى من حدائقنا ويحوّلوها إلى مشاريع تجارية لهم.

الخبر الذي تناقلته وسائل التواصل وأثاره عدد من الإعلاميين الشرفاء دفع المحافظة عبر المسؤول الإعلامي فيها لتقديم وعود شفهية بأنه لا توجد أي نيّة لتسليم حديقة السبكي لمستثمرين، لكن لم يصدر أي شيء رسمي عن المحافظة أو على موقعها الإلكتروني أو على صفحاتها الرسمية على مواقع التواصل، ممّا يشي بأنها محاولة أخرى لتهدئة الناس ووسائل الإعلام، وتمرير الموضوع بصمت.

إنّها جريمة قتل مدينة، فهل تمرّ؟!

العدد 1105 - 01/5/2024