منازل.. تعرِّي سكَّانها

إيناس ونوس:

حين أسير في شوارع مدينتي تسكنني رغبةٌ بالنَّظر إلى أشكال الأبنية السَّكنية وارتفاعاتها، وأستمتع حينما أرى شرفةً أنيقةً فأتخيَّل المنزل من الدَّاخل كم هو جميلٌ يشبه أناقة شرفته التي تعطيه الفرصة لاستنشاق الهواء وتجدُّد الحياة مع كلِّ إشراقة شمس، وأتمنى لو أنَّ الحياة تمدُّ يدها لي ويساعدني الحظ بامتلاك أحد هذه المنازل، بينما أشعر بالاختناق حينما يقع ناظري على تلك الكتل الإسمنتية المتلاصقة لدرجة الازدحام الخانق والمصطفَّة كيفما اتفق، والتي لا تتشابه بيوتها أبداً، فلكلِّ منها شكل يختلف كليَّاً عن جاره، والغالبية منهم لا إطلالة له وكأنها تقول لمالكيها أو القاطنين فيها: (عذراً، ابحثوا عن الإشراق في مكانٍ آخر!).

أسير ويأخذني التَّفكير في كلِّ بيت، أسراره، حياته، روتينه، همومه، مشاكله، ضحكاته، فالبيوت أسرار، غير أنَّ السَّكن في المناطق المكتظَّة والمحشوَّة لم يعد يخفي أسرار بيوته، بل غدت كلُّ الأمور مكشوفةً جليةً للجميع، نعرف تفاصيل حياة مَن حولنا دون أن نرمي السَّلام عليهم، وحتى دون أن نتعرَّف عليهم، يكفي فتح النَّافذة لتصلك الأصوات بشتَّى درجاتها وأشكالها:

  • هناك.. أسرةٌ شعارها الخلاف الدَّائم على مدار السَّاعة، وكلُّ القصص التي يختلفون عليها بتنا نعرفها، حتى إننا نستغرب إن عاشت يوماً واحداً بهدوء.
  • من الجهة المقابلة شابٌّ يحضِّر لامتحاناته، هو طالبٌ في المعهد العالي للموسيقا، وكلُّ مساءٍ تتغلغل موسيقاه وتمارينه مع نسائم الهواء إلى بيوتنا.
  • في الجهة الأخرى بيتٌ يجمع بين أحضانه عائلةً تعيش كلَّ لحظةٍ من يومها على السُّبحانية كما يقول المثل، من قلب الضَّحك والمزاح ينقلب المزاج وترعد أصواتهم ويبدأ الشجار بأعنف صوره، ثم ينامون في الهزيع الأخير من الليل بهدوء وكأنَّ شيئاً لم يكن.
  • هناك.. طفلٌ مريضٌ يبكي طوال الليل، صراخه يصعد إلى السَّماء وكأنَّه يرفض هذه الحياة.
  • هنا… عجوزٌ تبحث في رحلتها بين أنحاء منزلها عن مسيرة حياتها الضَّائعة وكيف بقيت وحيدةً تصارع اليأس.
  • في ساعاتٍ قليلةٍ من الليل، وبعد أن يتعب الهدوء كي يُخيّم أخيراً على الجميع تشعر ببعض الأمان والراحة، غير أنك اعتدت على المفاجآت المباغتة لصوتٍ من هنا وتأوُّهٍ من هناك.. ونحيبٍ من مكانٍ آخر.

إنَّها بعضٌ من صور حياتنا اليومية التي بتنا نحفظها عن ظهر قلب، نعيش تشتُّتنا معاً كما نعيش فرحنا القليل معاً، تجمعنا بيوتنا التي من المفترض أن تحفظ أسرارنا إلاّ أنَّها تعرِّينا أكثر أمام أنفسنا وأمام الآخرين، وفي الوقت ذاته لا علاقة لأحدٍ بالآخر ولا يحقُّ له التَّدخُّل في خصوصيات الآخر مهما أزعجته الأصوات أو كثرت المضايقات، لأن الجواب الوحيد سيكون: أنا في بيتي ولا أسمح لأحدٍ بولوج عالمي!

فأين المفرّْ؟!

لا مفرَّ من هذه السُّكنى ما دمت لا تملك وقتك ولا حياتك، ما دمت تركض لاهثاً وراء لقمة العيش ومتطلَّبات الحياة اليومية فقط ولا يمكنك أن تطمح بأن تمتلك بيتاً في منطقةٍ أخرى يستعيد لك بعضاً من خصوصيتك، بل وبكلِّ هدوءٍ ستشكر الآلهة كلَّ لحظةٍ أنك وجدت مكاناً يؤويك وعائلتك وتأخذ بالاستمتاع تدريجياً بمشاركة الآخرين قصصهم وحياتهم، فتنشغل بها عن عالمك ومتاعبك ويسرقك النوم مرهقاً تختلج مشاعرك وتختلط مزيجاً غريباً قبل أن يأخذك يومك التالي من نفسك.

العدد 1104 - 24/4/2024