مجاعة الأطفال

أحمد ديركي:

تكثر الإحصاءات والدراسات المحلية، والإقليمية والدولية والعالمية.. المتعلقة بمسألة المجاعات التي تصيب بعض مجتمعات الإنسان العاقل، على اعتبار بقية الأجناس البشرية انقرضت، والجنس البشري المتبقي هو الإنسان العاقل، وبهذا يمكن استخدام تسمية الإنسان، لتعبر عن هذا الجنس المتبقي، ألا وهو الإنسان العاقل.

بالتأكيد المجتمعات التي تصيبها المجاعات محصورة كلها في دول (العالم الثالث) أو (الطرفية) أو سمّها ما شئت، رغم أن هذه المجتمعات تضم أنظمة سياسية إن قامت بمجهود قليل واهتمت بشعوبها يمكنها أن تتجنب أشكال المجاعات كافة. في المقابل المجاعات لا تصيب مجتمعات الدول (المتطورة) أو (الصناعية) أو (ما بعد الصناعية)، أيضاَ سمّها ما شئت.

أي بملخص سريع (المجاعات) تعني عدم قدرة هذا النظام السياسي أو ذاك على تأمين قوت شعبه كي لا يموت من الجوع. والمفارقة أن من هم في السلطة السياسية لا يعانون من المجاعة رغم معاناة شعوبهم من المجاعات!

كما يوجد مجاعة من نوع آخر يندر الحديث عنها وهي (مجاعة الأطفال)!

صحيح أن أطفال البشر أكثر الكائنات الكائنات الحية اعتماداً على الكبار للبقاء أحياء، إلا أنهم في الوقت عينه بالتعابير الاقتصادية مستهلكون لا منتجون. وهذا ما يتناقض مع الفكر الاقتصادي في النظام الرأسمالي. ولنبقى ضمن المفاهيم الاقتصادية للنظام الرأسمالي إن كان الأطفال مستهلكين لا منتجين فلماذا الاحتفاظ بهم؟ أو بالأحرى الاهتمام بهم؟ للإجابة وجهان الأول إن انعدمت قدرة الإنسان العاقل على الإنجاب انقرض البشر، وحينئذٍ لا اقتصاد ولا أرباح ولا حتى فائض قيمة ولا استغلال ولا ولا ولا ولا.. فالإنسان لا يُخلد وله فترة زمنية يعيشها ومن بعدها يموت كبقية الكائنات الحية، ويحل نسله مكان المتوفين منه، لاستكمال الاستغلال وتحقيق فائض القيمة وارتفاع مستويات الربحية.. طبعاً ليس فقط القدرة على الإنجاب من يحفظ البشر من الانقراض لكن نكتفي بهذا العامل. أما الوجه الثاني للإجابة فيكمن في أنه بعد الاعتناء بالأطفال المستهلكين غير المنتجين، إن كتبت لهم الحياة، سوف يصلون إلى عمر الإنتاج ليتحولوا من مستهلكين فقط إلى ما يسمى مستهلِك – منتِج، والأصح منتِج – مستهلِك. وبهذا تستكمل الحلقة الاقتصادية في نمط الإنتاج الرأسمالي.

لذا يجب الإنجاب والاعتناء بالأطفال، وبخاصة أولاد الفقراء، فالأغنياء ليسوا بحاجة إلى كل هذه الدراسات لأنهم في الأصل لا يعانون من المجاعات. وفي خلال فترة الاستهلاك فقط، أي مرحلة الطفولة عند البشر تهتم الأنظمة السياسية، بكل تفرعاتها، والاقتصادية، في جزء من تفرعاتها، والاجتماعية بكل تفرعاتها وتعتني بالأطفال كي يصلوا إلى سن منتِج – مستهِلك وهم سليمو البنية العقلية والجسدية.

وما أكثر ما نشهده من مجريات أحداث على الأصعدة كافة تتحدث عن مدى أهمية (تنشئة) الأطفال في بيئة سليمة! وما أكثر المؤسسات، بكل أشكالها وتفرعاتها وتسمياتها، سواء كانت هذه المؤسسات رسمية، أي تابعة مباشرة للنظام السياسي وتفرعاته، أو مؤسسات أهلية أو محلية أو إقليمية أو دولية مهتمة بـ(الطفولة)، وما أكثر الملايين المنفقة في هذا المجال وأجور موظيفها المرتفعة بالعملات الصعبة، فأجورهم الشهرية تكفي للقضاء على كل أشكال الجوع في البلدان التي تعاني من المجاعات ومشاكل عمالة الأطفال و(مجاعات الأطفال)!

كل هذا من قبلهم يهدف إلى إنتاج إنسان منتِج – مستهلِك! لكن ضمن هذه الحلقة هناك حلقة مفقودة نادراً ما تجري مقاربتها. حلقة تصل ما بين الإنسان المنتِج – المستهلِك ونسله في مرحلة الاستهلاك فقط، وتتمثل هذه الحلقة في الفقر الذي يصيب معظم مجتمعات (العالم الثالث) وما يولده من (مجاعات الأطفال).

عند قراءة أرقام الفقر في (العالم الثالث)، وبخاصة في العالم العربي، وتحديداً في سورية ولبنان نُصاب بأزمة هستيرية تقودنا إلى عدم الاكتراث، فيمر الرقم مرور الكرام ونستكمل يومنا باحثين عن مصادر تؤمن لنا ما يكفي بقاءنا على قيد الحياة، أو تقودنا هذه الأرقام إلى التفكير بالهروب من هذه البلدان بمراكب الموت إلى أي مكان آخر أو تقودنا إلى… أو إلى… وما أكثر السبل التي تقودنا إليها هذه الأرقام الهستيرية المتعلقة بنسب الفقر، ومن ثم تلومنا الأنظمة السياسية وتعاقبنا على خياراتنا!

الأمر المؤلم والمتجاهل، رغم عيشنا في هذه الأرقام يومياً، طبعاً هناك من يعيش خارج هذه الأرقام الهستيرية ويتنعمون بنعم (الله) عليهم، أن هذه الأرقام الهستيرية تنعكس سلباً على نسل البشر، أي الأطفال، وتحديداً أطفال الفقراء، قبل أن يصلوا إلى مرحلة منتِج – مستهلِك.

يبدو هذا التدمير الممنهج من قبل من يقوم بعملية تدمير أطفال الفقراء مقصود. فالمسألة لا تتعلق بالقدرة على الانجاب، ولا على الانقراض، بل تتعلق بالاعتناء بهم لإنتاج أجيال سليمة العقل، بالمعنى المجتمعي لا البيولوجي، والجسدي. فالتدمير الممنهج المتبع له وجه خفي لقتل الأطفال من دون قتلهم!

فالفقر يسبب العديد من الأمراض الجسدية لعدم وجود التغذية الصحيحة، كما يسبب العديد من الأمراض المجتمعية، على اعتبار أن الطفل يعتمد بشكل كلي على الأكبر منه ليحفظ له حياته.

فعلى سبيل المثال لا الحصر، لكثرة الأمثلة اليومية التوضيحية لهذه المسألة، الأجور حالياً لا تكفي ثمن غذاء صحي لعائلة مؤلفة من ثلاثة أفراد، زوج وزوجة وطفل، طبعاً من دون احتساب أجرة المنزل والنقل و…، فلو تم احتسابهم لأصبح الأجر لا يكفي تكاليف الدفن، ما يجبر الزوجين على البحث عن عمل إضافي لرفع مستوى الدخل، في ظل غياب كل الخدمات الاجتماعية التي من المفترض أن يؤمنها النظام السياسي. وظيفة أخرى إن توفرت يعني قضاء المزيد من الوقت خارج المنزل، والمزيد من الإرهاق الجسدي، والنفسي والمزيد من المشاكل الزوجية، وبهذا فالطفل لن يحظى بالعناية السليمة، لا الجسدية ولا العقلية. وهنا يأتي الفقر ليكون ذاك العامل الخفي للضغط النفسي والجسدي المسبب لمعظم الأزمات التي تعيشها العائلة ويتفاقم الوضع مع مرور الوقت.

فالطفل بحاجة إلى عناية لفترة طويلة لينتقل من مرحلة الاستهلاك إلى مرحلة منتِج – مستهلِك سليم! الحلول تقليص كمية الغذاء الصحي اللازم، تقليص ساعات الاهتمام به، تقليص الاحتياجات الاستهلاكية، غير ضروريات الحياة مثل العصير والتشيبس والشوكولا… رفع مستويات التوتر في التعامل معه بسبب ضغوطات الفقر.

عندما يصل الطفل إلى بدايات مرحلة الإدراك يدرك مستويات (مجاعاته)، فهو محروم من التمتع باللعب، وشراء الألعاب، محروم من بعض أنواع الفاكهة لغلاء أسعارها، محروم من شراء بعض الثياب الجديد لغلاء ثمنها، محروم من أكل الشوكولا، وألف محروم ومحروم… لأن الأهل لا يملكون ما يكفي من الدخل لتوفير هذه الاحتياجات حتى بالحد الأدنى، والنظام السياسي متلهٍّ في شؤونه السلطوية. وعند دخوله إلى المدرسة الإبتدائية، طبعاً الحكومية لا الخاصة، لأن أطفال المدارس الخاصة لا يعانون من الجوع الذي يعانيه أطفال المدارس الحكومية، يدرك المزيد والمزيد من مدى الجوع الذي يعيشه، من الجوع إلى القرطاسية، إلى الجوع من الملابس، والجوع من… فيصاب الأطفال، وتحديداً أطفال الفقراء بمجاعة الأطفال. فكيف لنا أن نتحدث عن بناء أجيال المستقبل ومساهمة هذه الأجيال في بناء أوطان سليمة؟!

كل هذا التدمير الممنهج يحدث أمام أعين الجميع، والجميع متلهّون بنقاش جنس الملائكة.

العدد 1104 - 24/4/2024