مخاض التغيير

إبراهيم الحامد:

إن النظر بدراية أو دون دراية، فيما عصف بمنطقة شرق الأوسط عموماً أو ببلد من بلدانه، بمعزل عن الحراك العالمي – على إثر ما سمّي (الربيع العربي) – وتحميل سبب ذلك للسلطات المحلية فقط – وهي دون شك تتحمل جزءاً مهمّاً من الأسباب التي ساهمت في إثارة تلك العاصفة – فتلك النظرة تساهم في تجزئة حركة التطور المجتمع البشري، أو كمن يضع العصا في عجلة التغيير الطبيعي التقدمي، وبالتالي يساهم ذلك في تعميق الأزمة وإطالتها، لأن جذور الأزمة تمتد لفترة نهاية السبعينات إثر الأزمة الرأسمالية العالمية التي عصفت بالعالم، وأدخلت البلدان النامية التابعة لمراكز النظام الرأسمالي العالمي في أزمة اقتصادية، فتوجهت لحل هذه الأزمة عبر سياسات الخصخصة النيوليبرالية العابرة للدول والحكومات، التي نفذت تلك السياسات على حساب القطاع العام أو ما كان يسمى برأسمالية الدولة، وعلى حساب مكتسبات الطبقات الشعبية من العمال والفلاحين والحرفيين وذوي الأجور والرواتب وصغار الكبسة، ودمرت فيما بعد البنية التحتية لصالح رأس المال الخاص في المراكز المالية للنظام الرأسمالي في تلك الدول التي اتبعت سياساتها عبر الحروب والنزاعات التي أثارتها بأقنعة طائفية وقومية وقبيلة.

وبدأ العالم عموماً ومنطقة شرق الأوسط خصوصاً، تخوض في مرحلة انتقالية شديدة الغموض، يفتقر فيها النظام العالمي الحالي لرؤية واضحة المعالم للتعامل مع الأزمة البنيوية الحادة التي تعاني منها، والتي يدفع ضربتها اليوم الشعوب عموماً والطبقات الفقيرة منها خصوصاً، التي باتت تعاني من المشاكل والمآسي التي نجمت من السياسات الفوضوية والنزاعات والحروب الملحقة بتلك الأزمة.

إن القوى الرأسمالية والإمبريالية العالمية وأتباعها اليوم في الدول التي كان يسودها النظام الاقتصادي المعروف بـ (رأسمالية الدولة) والقطاع العام الإنتاجي، الذي عصفت به ما سمي بـ(الربيع العربي)، تسعى فيها اليوم لبناء جسور التواصل مع الشخصيات والفعاليات العشائرية ذات الموروث الإقطاعي، الذي ورثته المنطقة من السلطنة العثمانية، لأن تلك القوى الإمبريالية والرجعية تدرك جيداً أن ليس هناك سوى فعاليات عشائرية ورجعية كهذه تضمن لها استمرار مصالحها والسيطرة على ثروات المنطقة وحرمان شعوبها منها. وهذا الخيار يثبت أن النظام الرأسمالي والقوى الإمبريالية والرجعية هي من تضع العصا في عجلة التغيير الجذري التقدمي، وذلك من خلال الحفاظ على استمرار علاقات الإنتاج الإقطاعية الموروثة تلك من أيام السلطنة العثمانية، بالرغم من التطور الهائل في وسائل الإنتاج التي تستدعي وتفرض على أن يواكبها تطور قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج أيضاً في بنية النظم السياسية لدول شرق الأوسط، مثلما تستدعي الظروف الموضوعية التغيير في بنية مراكز النظام الرأسمالي الغربي الذي فشلت عولمته، وفشل تفرده بسيادة العالم المتعدد الرؤى والإيديولوجيات.

إن قراءة حركة تاريخ المجتمع البشري وتطوراته، تنبئ اليوم بدنو البشرية من عتبة مرحلة اجتماعية أكثر تطوراً وأكثر عدلاً اجتماعياً مما سبقتها، وهذا ما يدفع بالنظام العالمي القديم لإعاقة ذلك ووقف عجلة التغيير عبر محاولات إعادة بناء نفسه، بأقنعة مختلفة عن السابق وبأساليب وعلاقات الإنتاج القديمة، وهذا ينذر بولادة مسخ لا يشبه القديم ولا يناسب عملية التغيير الحقيقي للمجتمع البشري وفق احتياجات المرحلة الأكثر تقدماً وعدلاً اجتماعياً مما سبق، لذا فإن المرحلة المقبلة ومن أجل التغيير الحقيقي، تحتاج إلى حامل اجتماعي ثوري وعلماني ينهض من رحم الطبقة المتضررة والمضطهدة والتي تجاوزت نسبتها 85% من المجتمع البشري.

قد يقول قائل: إن هذا الغرب الإمبريالي الذي تحاربه، هو في قمة التقدم والتطور الصناعي والاقتصادي، وأوى مئات الألوف من اللاجئين إليه من منطقتنا، ولولا مساعدتهم لذويهم الباقين في الأوطان، لماتوا جميعاً جوعاً بسبب التهجير القسري والتشرد، ولكن لينظر هذا القائل إلى الوراء، وليقرأ تاريخ تطور الشعوب في تلك الدول، ليجد كيف وصلت إلى ما هي فيه الآن، لأنها لم تكن وليدة اللحظة أو المرحلة القصيرة، بل هي نتاج صراعات دامت لقرون من الزمن، راح ضحيتها مئات الملايين من البشر، وقد بدأت تلك الصراعات والحروب أولاً بالقضاء على السطوة الدينية وسيطرة رجال الدين، التي بدأت بثورة مارتن لوثر على سلطة الكنيسة آنذاك، وصولاً إلى الثورة البورجوازية التي قضت على علاقات الإنتاج الإقطاعية وقامت على إثرها الثورة الصناعية التي حولتها الرأسمالية إلى مصنع للعبودية ومنطلقاً للغزو والسيطرة على مقدرات وخيرات الشعوب، وأطلقت على دولها تسميات عدة (الدول الفقيرة والنامية، ودول عالم الثالث)، أي لا اشتراكية ولا رأسمالية، رغم غنى هذه المنطقة بكل أنواع الثروات ما فوق الأرض وما في باطنها، والتي استهدفتها القوى الإمبريالية ونهبتها وسرقتها وبنوا بها دولهم بأيدي وأدمغة أبناء ممن هجروهم إليها من تلك الدول وسموهم (اللاجئين)، وكل ذلك تحت شعارات التعمير والتمدن ونشر الحرية الفردية والديمقراطية فيها، والتي كانت (حق يراد به باطل)، وأدركت القوى الإمبريالية الغربية، أن الإبقاء على سيطرة رجال الدين والفكر العشائري والقومي العنصري في تلك الدول مع استمرار علاقات الإنتاج الإقطاعية هي ضرورة تاريخية لا بد من استمرارها، لأنه وبحال استمرارها وانبثاق أي نظام سياسي عنها، فلن يكون قادراً على الاستمرار إلا بالارتهان للدول الإمبريالية الكبرى وفق نمط الإنتاج الكولنيالي. وهذا ما أكد عليه الاشتراكي الروسي ليون تروتسكي في كتابه البرنامج الانتقالي ومهام الأممية الرابعة، بأن أي حراك تحرري في الدول التي تشبه دولنا يجب أن يتضمن على خطوات للتحرر من الموروث الإقطاعي ومن التبعية للإمبريالية، لذلك نرى أن القوى الامبريالية والرجعية التابعة لها والموجودة اليوم على أرض دولنا -، إن كان هذا الوجود شرعي أو غير شرعي – نرى أنها تتسابق على كسب ود الزعامات الدينية والطائفية والقومية الرجعية المحلية، ورثة علاقات الإنتاج الإقطاعية الكولونيالية.

 

ما العمل وما الحل؟

الحل بوقوف كل شعب من الشعوب -التي تعرضت بلدانها للغزو والاحتلال الإمبريالي الحديث – صفاً واحداً وبسلاح واحد لمقاومة قوى الاحتلال وأتباعها المحليين، فلا جدوى من إنشاء تيارات وجماعات مسلحة متعددة في بلد واحد، لأنها سرعان ما تتحول لمرتزقة ولصوص يصعب نزع سلاحها، فالحل الوحيد هو التنظيم الذاتي للقوى والأحزاب الوطنية السياسية ممثلي الطبقات الفقيرة المتضررة كلاً في بلده إلى جانب جيشها الوطني وبناء نفسها بنفسها، على أن تقود هي بنفسها الحوارات والمفاوضات على أسس الثوابت الوطنية والمصلحة الوطنية العليا، وبما يصب في مصلحة الجماهير الشعبية الكادحة والطبقات الفقيرة، التي تشكل الغالبية العظمى من الشعب، (وأي سلاح لا يقف خلفه نظرية ثورية سوف يوجه عاجلاً أم آجلاً، بشكل مباشر أو غير مباشر لصدور الفقراء).

والثورة لا يعني بالضرورة أن يمارس باسمها القتل والتدمير، إنما الثورة هي هدم منظم للقديم وبناء بإتقان لما هو جديد، ووفق مشروع وطني وحسب الظروف الموضوعية والذاتية، ومن أجل تحقيق مبدأ المواطنة الفردية والجماعية والعدالة الاجتماعية في كل بلد من تلك البلدان، شريطة أن يعتمد الحامل الاجتماعي الثوري عملية هدم البناء الفوقي للنظام السياسي القديم، وإعادة التأسيس لنظام سياسي ينسجم ويتوافق مع البنية التحتية التي تخدم وتلبي احتياجات الطبقات الشعبية التي هي أغلبية الشعب وبما يناسب احتياجات الإنسان المعاصر، والثورية لا تعني العنف أبداً، بل تعني التغيير الجذري في بنية النظام القائم عبر حراك جماهيري سلمي وبآليات جديدة، إلا إذا استخدم القديم العنف لإعاقة حركة التغيير، حينئذٍ يتطلب أن تكون ردة فعل قوى التغيير أقوى، وهذه العملية الثورية للتغيير بحاجة إلى تيار سياسي يعرف تماماً ما هي الإيديولوجيا الأمثل للطبقة المضطهدة والفقيرة ودورها وموقفها من الصراع الطبقي وما هو التحالف الطبقي الذي سوف تقوم ببنائه، وهذا ما يتطلب من قوى اليسار التقدمي عموماً، والأحزاب الشيوعية خصوصاً أن تعمل من أجل بناء أوسع تحالف يساري من الأحزاب اليسارية التقدمية والشيوعية في كل بلد، والتواصل فيما بينها عالمياً.

العدد 1105 - 01/5/2024