تأثر الثقافة العربية في القرن العشرين بالتيارات الفلسفية في أوربا

يونس صالح:

في فترة النهوض الثقافي العربي التي بدأت منذ نهايات القرن التاسع عشر واستمرت حتى نهاية الستينيات تقريباً من القرن العشرين، تأثرت الساحة الثقافية عندنا والعديد من رموزها بالفكر والثقافة الغربية من جوانب سياسية واجتماعية واقتصادية وفلسفية وفكرية.

وقد شهدت هذه الفترة ذروة الاهتمام بالفلسفة والتفكير الفلسفي وولادة رموز عدة لها كتابات فلسفية أثرت الساحة الثقافية العامة، وجذبت كتاباتها الكثير من القراء والمتابعين للأمور الفكرية والشأن الفلسفي.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن أسباب ظهور الاهتمام بالتفكير الفلسفي في تلك الفترة تعود إلى عوامل عدة، فمنذ ظهور حركة الإصلاح الديني في القرن التاسع عشر وبدايت القرن العشرين، حدث نوع من التحول والانفتاح على العالم الخارج فرضته الدعوة إلى التغيير والتطوير لواقع ساده الجمود والتراجع فترة طويلة من الزمن. هذا الأمر استدعى البحث عن نماذج سياسية واقتصادية وفكرية ممن سبقونا في العلم والحضارة، فكانت الوجهة أوربا، التي اتجه إليها معظم مفكري ومثقفي تلك الفترة، ومع التحولات المدنية في المجتمع، وظهور الجامعات بدئ بإرسال البعثات الدراسية إلى أوربا لدراسة الفلسفة، فتخرج جيل حمل خلاصة الفكر الفلسفي الغربي وتطوره، فنشطت حركة الترجمة للكتب الفلسفي، واتسعت رقعة الاهتمام بالفلسفة والتفكير الفلسفي، وأصبحت هناك حركة فكرية ذات طابع فلسفي لم يقف تأثيرها على المختصين في الفلسفة، بل امتد إلى العديد من الرموز الثقافية الذين نهلوا من التراث الفلسفي وكتبوا عن الفلسفة، واستعان الكثير منهم بالأدوات والمناهج الفلسفية في عرض أفكارهم ونتاجهم الأدبي والثقافي. وبالعودة إلى أبرز التيارات أو الفلسفات التي لاقت رواجاً في تلك الفترة بين عدد لا بأس به من المثقفين والقراء وبعض السياسيين، سنجد الفلسفة الماركسية، والفلسفة الوجودية والوضعية المنطقية، بينما لم تلاق فلسفة التحليل، وهي الفلسفة التي تسيدت العالم الغربي في تلك الفترة ذلك الرواج، نتيجة لأسباب عدة.

لقد شهدت الفترة التي تلت الحرب العالمية الأولى وانتصار الثورة البلشفية، وظهور الاتحاد السوفييتي انتشار الأفكار الماركسية، وما تمخض عنها من تصورات مختلفة حول مفهوم الاشتراكية في أنحاء شتى من العالم، لقد لاقت هذه الأفكار في بداية الأمر انتشاراً عند عدد من السياسيين والمفكرين ونفر قليل من القائمين على تدريس الفلسفة، لكن ما لبث أن اختلفت الصورة بعد الحرب العالمية الثانية، فقد لاقت هذه الأفكار رواجاً كبيراً ساعد على انتشارها الحرب الباردة، وساهمت فيه عوامل عدة منها ما هو سياسي وفكري وثقافي، فانتشرت الأفكار اليسارية عموماً بين المهتمين بالفلسفة وكذلك القارئ العادي.

لقد وجد الكثير من المفكرين والسياسيين في الماركسية أجوبة عن أسئلة عديدة كانت بحاجة إلى إجابات، منها كونها طريقة تفكير علمية، حسب المنظور الماركسي، وتشكل نظاماً سياسياً ذا طبيعة اقتصادية متميزة، وتعبر في نهاية الأمر عن نظام عادل نتيجة القضاء على الطبقية في المجتمع. لقد قدم العديد من المنظرين الماركسيين الماركسية على أنها نظرية تسترشد بالنظرة العلمية في تفسير العالم والمجتمع قائمة على أسس مادية، أبرز مكوناتها المادية التاريخية والمادية الجدلية، فالأولى تتحدث عن مراحل تطور المجتمع الإنساني، أما الثانية فتطرح قوانين التطور بصورة عامة في المجتمع والطبيعة.

لقد قدمت الماركسية منهجاً شاملاً لتفسير الواقع والحياة والمجتمع من زاوية معينة، وقد غلب على منهجيتها طابع التعميم، الذي يتلاءم مع الرؤية الشمولية عند الكثير من المثقفين والسياسيين للواقع، وقد نتج عن هذا الأمر النظرة المسيسة لكل شيء. لقد تم تسييس كل شيء ووضعه في خدمة مصالح الطبقة العاملة. إن الطابع الشمولي للماركسية مثّل أرضية خصبة للتنظير، وتفسير العالم من منظور واحد انطلاقاً من مسلمات تم التسليم بصحتها المطلقة لا تخضع لأي نقاش أو جدال للتشكيك فيها، وقد وجد الكثير من المنظرين عندنا ضالتهم في ذلك. فالخطاب السياسي عندنا في أغلبه خطاب إنشائي يفتح المجال للسرد والتنظير والتراشق اللفظي الذي يبتعد معظمه عن الواقع وتحليله بشكل نقدي، وما يمكن الإشارة إليه فيما يلخص انتشار الماركسية هو ذلك الموقف السياسي المعادي للولايات المتحدة ودول أوربا الغربية نتيجة للإرث الاستعماري السابق وممارساته، والموقف من القضية الفلسطينية والداعم دوماً لإسرائيل.

أما الفلسفة الوجودية، فكانت من أكثر الفلسفات انتشاراً بين جمهرة من الأكاديميين والمثقفين والقراء، وكانت قبل ذلك قد لاقت رواجاً كبيراً، خصوصاً في أوربا من الفترة ما بين الحربين العالميتين. لقد لعبت مجموعة من العوامل في انتشارها عربياً، يمكن إيجاز بعضها فيما يلي:

تفتقر الفلسفة الوجودية إلى أداة أساسية للتحليل الفلسفي، ألا وهي المنهجية، فتكوّن المعرفة يتم على أسس ذاتية لكون الموضوعات الأساسية الدارجة في الثقافة العربية تتمثل في الكثير من القيم، التي تمثل أبعاداً ذاتية، لا يتم تعلمها عبر مناهج معرفية أو فكرية، ومن جانب آخر مثلت الوجودية ملاذاً لشريحة ليست بالسهلة ممن عاصروا فترة التحولات، التي حدثت في بنية المجتمعات العربية، والتحول من الطابع الريفي لهذه المجتمعات إلى الطابع المدني الحديث، ومن أبرز مظاهر ذلك التحول هو التخلي عن الروح الجماعية التي كانت سائدة في المجتمع الريفي، والتوجه إلى النواحي الفردية والذاتية، وبما أن الوجودية تعزز الجوانب الفردية والذاتية، فقد لاقت أفكارها قبولاً عن الكثيرين يرون في تحقيق الذات بشكل حر وفردي أكثر قابلية ومعقولية عن الخضوع للسلطة الجماعية والاجتماعية التي تذيب الفرد وقدراته في الجماعة التي يتبعها.

أما الوضعية المنطقية كاتجاه فلسفي، فلقد كان زكي نجيب من أبرز المفكرين العرب الذين ساروا على هذا النهج، ويقترن هذا الاتجاه بالتفكير العقلاني وروحه التجريدية والواقعية التي تقوم على الموضوعية والمبنية على أسس منهجية تستخدم في تفسير الواقع وظواهره ومشكلاته الناتجة عنه.

ويقودنا الحديث عن الوضعية المنطقية إلى فلسفة التحليل، ولكن بشكل معاكس، فعلى الرغم من كون الوضعية المنطقية أحد الاتجاهات التحليلية في فلسفة التحليل المعاصرة، فإنه يبدو أن فلسفة التحليل لم تلقَ بشكل عام رواجاً في أوساط القراء والمثقفين، على الرغم من انتشارها الواسع منذ بداية القرن العشرين وحتى عقده السابع في الساحة الفلسفية الغربية. ربما يعود سبب ذلك إلى تركيز فلسفة التحليل على تحليل اللغة والمفاهيم والتصورات بالدرجة الأولى، وإهمال عدد من القضايا التي كانت موضع نقاش في معظم تاريخ الفلسفة. إن الواقع العربي كان بحاجة إلى الدفع بالنهوض به والاهتمام بقضايا مثل شكل الدولة السياسي والعدالة وحقوق الإنسان والتفكير العلمي وغيرها وليس إلى فلسفة التحليل اللغوي.

 

أين نحن الآن؟

بعد تراجع الحركة الثقافية التنويرية، تراجع الاهتمام العام بالفلسفة والفكر بشكل كبير، فبعد هزيمة حزيران عام 1967 بدأت حركة الردة في الثقافة العربية وتحول الشارع تدريجياً إلى الأصولية والإسلام السياسي، فانتشرت ثقافة انعزالية معادية لأي نوع من أنواع التفكير الفلسفي والحر، وتم تصفية الأفكار التنويرية التي عرفتها الثقافة العربية من قرن ونيف ومضى، وحل محلها أفكار هامشية وقضايا شكلية لا تقدم ولا تؤخر ناتجة عن طريقة تفكير لا علاقة لها بالعصر وثقافته، ومع الأسف لم تقتصر هذه الموجة على العامة والرموز الأصولية فقط، بل جرفت معها الكثير من الرموز، التي كانت يوماً ما تنظر للعقل والتفكير الفلسفي، أو صاغت أفكارها بأبعاد فلسفية، إذ تم الانسياق وراء الموجة الدينية، وإعلان البعض عن تراجعه عن أفكاره السابقة، ودخل في ذلك التراث أو تم تغليف القضايا والمشكلات بطابع عقائدي، كل هذا ساهم في تراجع الاهتمام بالفلسفة، في مقابل ذلك خاض نفر قليل ممن بقي على أطروحاته الفكرية سجالاً مع القوى الأصولية والمحافظة، وغابت تلقائياً الرموز الفكرية التي كانت تنقد الواقع والثقافة العربية بأفكار تنويرية.

 

العدد 1107 - 22/5/2024