العمل الإنساني مسؤولية حكومية

إيمان أحمد ونوس:

منذ أن وعى الإنسان وجوده البشري، بدأ بالتعاون مع جيرانه ومحيطه بشكل يخدم استمرارية بقاء الجميع بأمان وسلام. وقد شكّل هذا التعاون أحد أهم سمات الإنسانية على مرّ العصور، لاسيما خلال الكوارث والحروب والنزاعات التي شهدت العديد من أعمال الإغاثة العفوية في مختلف المناحي الصحية والمعيشية وغيرها.. وبعد الحربين العالميتين تمّ إنشاء منظمات دولية أممية كالصليب الأحمر والهلال الأحمر فكانتا الأبرز في التصدي لمختلف أنواع الإغاثة خلال الكوارث والحروب. إلاّ أن الهجوم الذي حدث بتاريخ 19 آب عام 2003 على فندق القناة في بغداد وأسفر عن مقتل 22 من عمال الإغاثة الإنسانية، بمن فيهم الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة، سيرجيو فييرا دي ميلو أثناء الاحتلال الأمريكي للعراق كان قد دفع بالأمم المتحدة إلى اعتبار هذا اليوم يوماً عالمياً للاعتراف بمجهود وتضحيات العاملين في المجال الإنساني، وأولئك الذين فقدوا حياتهم بسبب الإغاثات الإنسانية في أماكن الحروب والصراعات والكوارث والذي وصفه الأمين العام للأمم المتحدة  أنطونيو غوتيريش بأنه: (مناسبة نشيد فيها بالعاملين في مجال تقديم المعونة في كل مكان، ونلتزم ببذل كل ما في وسعنا لحمايتهم وحماية العمل الحيوي الذي يضطلعون به. فلنحزمْ أحذيتنا الرياضية ولنلتحقْ بحملة السباق البشري ثم نعمل معاً على ضمان أن يصل الجميع إلى خط النهاية).

هذا على المستوى العالمي، أمّا على المستوى المحلي، وتحديداً مع بدء الأزمة السياسية التي تحوّلت إلى حرب كارثية جرفت في طريقها كل مظاهر الحياة والأمن والأمان والاستقرار. هنا نشطت الجمعيات الخيرية والأهلية لتقديم المساعدات والإعانات المطلوبة للمهجّرين والهاربين من نيران الحرب وويلاتها الأخرى، فكانت منظمة الهلال الأحمر هي الأبرز باعتبارها منظمة تمتلك من الإمكانات المادية واللوجستية ما تفتقر إليه بعض الجمعيات الأهلية أو الناشئة حديثاً بحكم الحرب. ولا ننسى كم تعرّض العاملون في هذه المنظمة وغيرها من جمعيات لأخطار هدّدت حياتهم وسلامتهم خلال قيامهم بواجبهم الإنساني المعهود، وأن بعضهم فقد حياته أو أحد أعضاء جسده وهو يقوم بإنقاذ وإغاثة المحتاجين في المناطق الساخنة. ولا شكّ أن ما قام به هؤلاء العاملون والمتطوعون وما تعرّضوا له من مخاطر ينطبق على أفراد لا ينتمون ولا لأية جمعية أو منظمة، بل دفعتهم إنسانيتهم خاصّة أثناء التفجيرات التي حدثت والقذائف التي كانت تنهمر بين لحظة وأخرى على بعض المناطق لإنقاذ الأشخاص الموجودين بالمكان. ولا يفوتنا روح التعاون والأثرة التي وسمت المجتمع السوري حينذاك، فكم من بيوت فتحت أبوابها لاستقبال المُهجّرين من مناطقهم، وكم من مطابخ جماعية شهدتها بعض الأحياء لتقديم الطعام لهم، والأمثلة أكثر من أن تُعَدُّ ولا يتسع لها هذا الحيّز من المقال.

وإذا ما أردنا التطرّق لدور الحكومات المُتعاقبة وسياساتها وإجراءاتها خلال هذا العقد من عمر الحرب وحتى اليوم، نجد أنها بقيت سياسات روتينية- تعجيزية لم ترقَ للحد الأدنى من المطلوب منها في ظروف استثنائية بكل المقاييس، بل بالعكس كانت تعرقل العديد من أنشطة المنظمات والجمعيات الأهلية بسبب القوانين المعمول بها منذ عقود خلت ولم تعد تتوافق وظروف الحرب هذه ولا ظروف المعيشة التي فاقت كل خيال وتوقّع بقسوتها ووحشيتها وفظاعتها بسبب الغلاء الفاحش الذي فرّضه تجّار الحرب وحيتانها الذين أثروا بين ليلة وضُحاها على حساب دماء الملايين وجوعهم وتشرّدهم وعلى مرأى ومسمع المسؤولين في الحكومة الذين لم يتّخذوا أيّ إجراء للجم هذا الغلاء أو لمعاقبة المتطاولين على القانون أو التسعيرات التي تضعها وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك!! وكم تُضحكني عبارة (حماية المستهلك) هذه لأنها تناقض ذاتها حين تحمي أولئك التّجّار، بينما تترك المستهلكين البسطاء والمسحوقين تحت رحمة جشعهم، ودون أن تعمل على التدخّل من خلال مؤسساتها المنتشرة على مساحة البلاد من أجل حماية المستهلك فعلاً لا توصيفاً وشعارات خاوية من كل شعور ومعنى إنساني. ولم يقتصر الأمر على الأسواق ومتطلبات الأكل والشرب، بل تعدّاه لبقية احتياجات الحياة الأخرى، إضافة إلى تجميد الرواتب والأجور للعاملين في الدولة عند حدودها الدنيا مقابل كل هذا الغلاء، ومقابل العديد من الضرائب والرسوم المفروضة على محدودي الدخل لتكون رافداً أساسياً لخزينة الدولة التي تغاضى مسؤولوها عن كم الضرائب المتوجّبة على كبار المُستثمرين والتجّار والصناعيين وغيرهم.

لا شكّ أن ما ذكرناه عن دور الحكومة غيض من فيض السياسات والإجراءات التي تقوم بها والتي لم تصبُّ يوماً في مصلحة الشرائح والفئات المُهمّشة والمسحوقة التي تُشكّل باعتراف الجميع أغلبية السوريين المُحتاجين اليوم لمساعدات غذائية وصحية أوردتها بالنسب والأرقام تقارير منظمة الزراعة والأغذية العالمية وحتى منظمة اليونيسيف الشريك الأممي الأساسي للحكومة في المساعدات التي تقدّمها تلك المنظمة للسوريين الذين لم يصلهم منها سوى فتات الفتات بحكم الفساد المُستشري في المفاصل الأساسية المسؤولة عن هذه الشراكة وغيرها. وبدل أن تكون تلك الحكومات حكومات أزمة تسنُّ التشريعات والسياسات المفروضة في مثل تلك الظروف والتي قامت بها العديد من حكومات البلدان التي شهدت ما شهدناه نحن وربما أقلّ، بل كانت وما زالت تضغط أكثر وأكثر على المسحوقين خلال سيرها في ركب أولئك التجّار والمُستثمرين ومصلحتهم التي تصبُّ في مصلحة غالبية المسؤولين الحكوميين أنفسهم المسؤولين عمّا كُنّا نطمح إليه من وجود مسؤولين يتمتّعون بحسٍّ إنساني تفرضه إنسانيتهم أولاً ومن ثمّ موقعهم ومسؤولياتهم الحكومية المنوطة بهم.

العدد 1105 - 01/5/2024