المنظمات الإنسانية.. غياب قسري وبدائل عاجزة

حسين خليفة:

في حي دمشقي عاش أهوال الحرب والدمار كنّا، البداية كانت في خروج مظاهرات كما في معظم مناطق سورية، ولم يطل الأمر حتى بدأت المواجهات المسلحة تمد برأسها بعد العنف غير المسبوق الذي جوبهت به الاحتجاجات الشعبية، ومعروف أن أفظع الحروب وأقساها هي الحروب الأهلية خصوصاً إذا توفّر بيد طرفي الحرب أو أحدهما أسلحة فتّاكة ومدمّرة، وهو ما تحقّق في الحرب السورية.

النتيجة خرج ملايين السوريين من منازلهم تاركين خلفهم كل ما جنوه في رحلة العمر نهباً للـ(تعفيش) والدمار، وقبلها سقوط مئات الآلاف من الضحايا والجرحى والمعتقلين والمخطوفين.

السوريون الذين استطاعوا عبور المخاطر والوصول الى بلاد اللجوء الأوربي هم أكثر من لمس الدور الإنساني للمنظمات الإنسانية والخيرية، لأنهم تعاملوا معها في بلد المنشأ، حيث لم ينخر فيها الفساد المتأصّل لدينا، الفساد الذي تحول إلى ثقافة اجتماعية بفعل تغلغله في النسيج الاجتماعي ورعايته ودعمه.

هناك وجد اللاجئ يداً حانية واهتماماً فاق التوقع، وقد أصبح كل من خرج من البلاد باتجاه أوربا موضع غيرة وحسد ممّن بقي على قيد الوطن.

أما بالنسبة لنا نحن الذين بقينا في حضن ظننّاه دافئاً أو على الأقل أرحم من الغربة، فقد رأينا بأم أعيننا ظلم ذوي القربى، ووقاحة الفساد والفاسدين في نهش ما تبقى من مدّخرات السوريين عبر موجات الغلاء المتتالية بحجّة الحصار الواهية، ومكشوفة مثل ضوء الشمس تلك الشراكات القذرة بين متنفّذين كبار وتجّار حرب، حلف دنس لا يأبه بآلام الناس ومعاناتهم من الفقر والجوع، وفقدان المواصلات والمحروقات وكل الحاجات الأساسية من كهرباء وماء وخدمات، المهم أن يستمر نهبهم ويزداد، وأن تمتلئ خزائنهم بالمال المنهوب من بسطاء السوريين مباشرة أو بشكل غير مباشر.

هذه الحلقات الجهنمية في الداخل السوري استطاعت منع أو تحجيم دور المنظمات الإنسانية بحجج سياسية وعقائدية باهتة، لتصبح الساحة بكل ما تحتاجه من نشاط اقتصادي وخدمي وإعادة إعمار ملكية حصرية لهم، والمنظمات الإنسانية بين خيارين: إمّا أن تتشارك معهم وتصبح نافذة جديدة للنهب والإثراء غير المشروع على حساب معاناة السوريين وجوعهم، أو أن تبقى بعيدة عن المساهمة في تخفيف أعباء الحرب وما بعد الحرب (وهي أصعب وأثقل من الحرب ذاتها مثل مريض كان تحت التخدير أثناء العملية الجراحية ثم ما إن ذهب مفعول المخدر حتى بدأت الآلام والمضاعفات تنهش جسمه) عن السوريين الباقين في الداخل.

هذه باختصار قصتنا مع المنظمات الإنسانية التي حاولت بما تستطيع تقديم مساعداتها عن طريق منظمة الهلال الأحمر السوري، الجهة الوحيدة المخوّلة بإيصال المساعدات إلى المحتاجين، وتقديم الدعم للمهجّرين، وهذه المنظمة شبه الرسمية بذلت جهوداً ملحوظة، وساهمت مشكورة في مساعدة الناس عبر تقديم معونات للأسر المحتاجة بناء على قواعد بيانات تمّ إعدادها بالتعاون مع الجمعيات الخيرية.

ولا بدَّ من الإشارة إلى الدور الايجابي الكبير لبعض الجمعيات الخيرية، التي استطاعت في ظروف الحرب والتهجير والفقر المدقع، والمضايقات والعوائق الناجمة عن ظروف الحرب والتوجّس والحواجز وضعف الأمان على الطرقات، أن تقدّم بعض العون للمحتاجين من السوريين الذين شرَّدتهم الحرب وحوّلتهم إلى لاجئين في بلدهم، وخفّفت عنهم بعض أهوال الحرب والتهجير، وكانت أكثر مرونة وديناميكية من الجهات الرسمية أو شبه الرسمية في أداء هذا العمل، الذي يحتاج إلى سرعة اتخاذ القرار وسهولته بعيداً عن البيروقراطية التي تسم الجهات الحكومية والرسمية، إضافة إلى أنها أقلُّ تأثّراً بآفة الفساد، وتخضع لمراقبة مباشرة من المموّل أو من الإدارة.

إن كيس طحين أو علبة دواء أو بطانية تقدَّم لمهجَّر لهي أفضل وأنجع من آلاف الخطابات والمقالات والرسائل التي لا تسمن ولا تغني من جوع، سوى أنها تُبيّض صفحة قائلها، الذي يدعو الناس إلى التسلّح بالصبر والتحمّل، مُحمّلاً الحصار الجائر كل ما يعانيه السوريون، علماً أن الحصار لا يشمل مواد الغذاء والحاجات الإنسانية كلها، بل لا يشمل وسائل الرفاهية الخاصة بطبقة الأثرياء وشركائهم من أصحاب القرار والمتنفذين، والدليل قوافل السيارات من أحدث الأنواع الغربية والشرقية التي تدخل البلاد وأحدث أنواع الموبايلات والآيفون، وهو صناعة إمبريالية أمريكية لا يخلو منها بيت مسؤول يبيض علينا ليل نهار بتحديه للامبريالية ومقاومته وصموده، وما إن ينهي الرفيق خطبته العصماء  حتى يحمل جهاز الآيفون الخاص به ويركب سيارته (الإمبريالية) ويمضي إلى منزله المُضاء والمزوّد بكل وسائل الراحة والرفاهية والتي معظمها غربي المصدر، هذا إن لم يكن مشاركاً في حلقات النهب والإثراء غير المشروع.

العدد 1107 - 22/5/2024