إمام العقل والمنطق.. وأسئلة الحياة

عباس حيروقة:

ثمّة عشرات إن لم نقل مئات المقالات والدراسات والأبحاث وعشرات الكتب النقدية والفكرية والفلسفية جرى تأليفها وطباعتها وتوزيعها في مختلف دول العالم وبلغات عدة تناولت حياة أديب وباحث وشاعر وفيلسوف من مقام أبي العلاء المعري، وفكره وفلسفته وشعره، فقد عاش ما بين (973-1057) ميلادية رهين المحبسين، وهو معروف بلقب شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء ومهما سنبدع في البحث والكتابة قد يكون في الكثير منه اجترار وتكرار.

وما تقوم به اليوم صحيفة سورية من مقام (الأسبوع الأدبي) الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب في مرحلة جد دقيقة تعني الكثير الكثير وتوجه رسالة جد هامة أيضا أقل ما يمكن أن نقرأ فيها هو تلك الدعوة الواضحة والصريحة لإعمال العقل وضرورة الانتصار له وأن نعمل على تعزيزه سيداً لكل مفردات الحياة.

وما استحضارنا لتلك الشخصية التاريخية الاستثنائية بثقافتها ورؤاها وأدبياتها العامة والخاصة ومواقفها الجريئة جداً من الحياة وأبناء الحياة من رجال دين وساسة وعسكر ومن عَبدة المال والجاه والنفوذ إلا صرخة مدوّية نطلقها في وجه كل أشكال القبح والخراب والدمار والتشوّه الذي خلفته الحروب والصراعات.

ومن المعروف أن المرحلة التي عاش فيها شاعرنا وفيلسوفنا مليئة بالقلاقل وبالمؤامرات والدسائس والنزاعات إلا أنه لم ينتصر لأي تلك الثورات ولا لشعاراتها الخلبية المرفوعة تحت عناوين شتّى كـ مقاومة الاستبداد والانتصار لأبناء الرغيف والماء، واعتبر حكيم الدهر أن غاية وهدف قادتها (ساسة – عسكر – رجال دين) الوصول إلى سدة الحكم ومواصلة ممارسة تلك السياسات التاريخية القبيحة التي تحط من قيمة الإنسان وقدره بلبوس مختلف مغاير جديد عما سبقه كونه يرى أن الظلم والقهر والقمع لم يتوقف يوماً عبر التاريخ.

نعم، حكيم الدهر (المعري) أعمل عقله واتخذ قرارات ومواقف اتسمت بنزعتها الفلسفية الجدلية المبنية على عقل نقدي حيوي فعّال فكان يُجيد طرح الأسئلة الأهم التي من شانها إحداث عصف ذهني عند أبناء المكان.. أسئلة في نقد الخرافة والشعوذة وقضايا كانت تعتبر من المسلمات ..أسئلة البحث عن الحقيقة وإظهارها وإشاعتها ..ومن البداهة أن تلك الأسئلة المغايرة لم تلقَ قبولاً، بل لاقت معارضة واستهجاناً ورفضاً عند أبناء النقل والفقه والشريعة.. إذ قاله بكل صراحة وإيمان وصرخ صرخته تلك أن لا إمام سوى العقل:

يرتجي الناسُ أن يقوم إمامٌ

ناطق في الكتيبةِ الخرساءِ

كذَب الظنُّ لا إمامَ سوى العقلِ

مُشِيراً في صُبحهِ والمساءِ

ما استحضارنا اليوم لتلك الشخصية الاستثنائية إلا بهدف اطلاع وتبصير أجيال اليوم لاسيما أبنائنا الشباب من طلاب الجامعات على ما كان عليه العقل من حيوية وألق في تلك الأيام وما يجب أن نعمل حتى نضمن إعادته إلى ما كان عليه لا بل العمل على فتح كل آفاق الحرية من قول ومعتقد في جوّ سليم معافى لا يشوبه الخوف أو القلق من التكفير والاعتقال والتنمّر.. من يقرأ مفردات العقل في تلك الأزمنة وما كانت عليه من جرأة في قول الحق والطرح والحوارات.. كل هذا كان بتوافر وتوفر رموز فكر وثقافة حقيقية منتمية للعقل وللنور.

لن نتحدث في هذه الفسحة الضيقة عن مؤلفاته (سقط الزند – لزوم ما لا يلزم – الأيك والغصون – رسالة الغفران.. الخ) ولكن من الممكن أن نقول إنه عاش حياة خاصة استثنائية لم يشبه سواه، فجاءت مواقفه من الناس والحياة والدين نابعة من تقديسه للعقل واعتباره الحكم الأساس في مختلف الشؤون ودليله نحو الخلاص.

لاشك كما هو معروف أن المعرّي أصيب وهو في عامه الرابع بمرض الجدري الذي تسبب بفقدان بصره بالكامل إلا أن هذا لم يشكل عائقاً أمام تعلّمه ودراسته في اللغة والفقه والدين، واتسعت دائرة المأساة والقلق والحزن عقب وفاة والده وهو في سن الرابعة عشرة من عمره وبدأت تُطرح أمامه أسئلة الموت.. والوجود.

خفّف الوطء ما أظن أديم

الأرض إلا من هذه الأجساد

ودفين على بقايا دفين

من قديم الأزمان والآباد

تعب كلها الحياة فما أعجب

إلا من راغب بازدياد

و سافر إلى بغداد وهو الذكي النبيه الفطن وعاش حياة الحوارات المليئة بالأدب والشعر والفلسفة والدين.

بعد أن خبر الناس وعرف طباعهم ساءه ما ساءه من قبيح أفعالهم.. عاد وعاش في عزلة مديدة.. عاش خلالها حياة تقشف وزهد ويأس وتشاؤم وشك وارتياب.. احتقر المال وأسياده والحكم والسياسة وشتم الدنيا وكل متعة فيها ولذة لاسيما حين رأى أن أهل الفكر والعلم والفضل والأدب هم غرباء في أوطانهم يعانون الفقر والعوز والحاجة في حين أن أهل المال والجهل ينعمون بمكانة اجتماعية:

ألو الفضل في أوطانهم غرباءُ

تشذُّ وتنأى عنهمُ القرباءُ

وزهّدني في الخلق معرفتي بهم

وعلمي بأن العالمين هباءُ

عاش نباتياً لم يأكل اللحم أبدا وهجر الطيبات كلها حتى أنه لم يتزوج كي لا ينجب أطفالاً ويكون سبباً في تعاستهم وعذاباتهم بعد أن عاش ما عاشه وواجه ما واجهه فأوصى حين وفاته أن يكتب على شاهد قبره هذا البيت من الشعر: (هذا جناهُ أبي عليّ وما جنيتُ على أحد).

يطول الحديث جدا في سيرة إمام العقل ونوره الوضاح.. ونختم بهذه الأبيات التي قد تلخص بعض رؤاه:

ألا في سبيل المجد ما أنا فاعلُ

عفاف وإقدام وحزم ونائلُ

ولما رأيت الجهل في الناس فاشياً

تجاهلت حتى ظُنّ أني جاهلُ

فَواعجباً كم يدّعي الفضل ناقصٌ

وواأسفاً كم يُظهرُ النّقص فاضلُ!

العدد 1105 - 01/5/2024