طفولةٌ مغلَّفةٌ لا تثمر!

إيناس ونوس:

حين كنّا صغاراً، كانت ألعاب الحارة البسيطة الجماعية عالمنا الخاص، وإن تغيّب أحد أقراننا عنها يوماً ينتابنا شعورٌ بالقلق وبالنُّقصان.

حين كنّا صغاراً كان يزداد وعينا معاً، عبر المعلومات التي ينهلها كلٌّ منّا، ويبوح بها كَسِرٍّ شديد الخصوصية للباقين من أقراننا.

حين كنّا صغاراً، كانت متعة اكتشاف المحيط من حولنا لا حدود لها، حتى اكتشاف المعاني اللُّغوية لمفرداتٍ لم يكن أهلنا يسمحون لنا بها كان له طعمٌ سحريٌّ ولذّةٌ خلّابة.

لم تكن التُّكنولوجيا الرَّقمية آنذاك قد ولجت عوالمنا بعد، إلاّ فيما ندر عبر بعض الألعاب البسيطة التي لم يمتلكها إلاّ أبناء الأثرياء فقط، وكان الحلم يرافقنا بأنّنا سنمتلكها يوماً وسنصبح.. أثرياء!!

كبرنا، وتطوَّرت تلك الألعاب، وباتت التِّكنولوجيا الرَّقمية بمتناول الجميع، فشعرنا بأنَّنا غدونا حقَّاً أثرياء حينما بدأنا نستخدمها، لاسيما أنها مدّت لنا يدها وساعدتنا في الوصول إلى بعض رفاق الزَّمن الجميل بعد أن أبعدتنا الحياة، وصار يكبر بداخلنا شعورنا بالثَّراء والتَّطور والتَّقدم، بل وبأنَّنا أذكى، كلَّما فتحت تلك التُّكنولوجيا أمامنا باباً جديداً من تلك الأبواب التي لم نكن نعرف عنها فيما سبق شيئاً، وصار أن طغت على حياتنا، وباتت من أهمِّ مقوِّماتها، فأمست جزءاً لا يتجزأ من حياتنا وحياة أبنائنا وأطفالنا، الذين لم يعلموا شيئاً عن عوالمنا السَّابقة، ولم يعيشوا لحظةً واحدةً منها.

ولأنَّنا دوماً نجد المبرّر لأيّ فعلٍ نقوم به أيّاً يكن، فإنَّنا نبرّر لأنفسنا السَّماح لنا ولأبنائنا باستخدام تلك التِّقنيات، بل وطغيانها على مفاصل يومنا الدَّقيقة، صرنا نقول إنَّ الحياة تغيّرت، فلم نعد نسمح لأيِّ شخصٍ آخر بفرض سلطته أو سيطرته على أبنائنا، على عكس ما عشناه في الماضي من تعدُّدٍ للأشخاص والآراء المحيطة بنا والتي أسهمت في تربيتنا وتشكُّل شخصياتنا على ما هي عليه اليوم، وغدت الحارة وألعابها في يومنا هذا أكثر مكانٍ غير آمنٍ لأطفالنا الذين نريد لهم حياةً أفضل من حياتنا، فأخذنا نزجَّهم في عوالم جديدةٍ عليهم و.. علينا، متباهين بقدراتهم على استخدامها بشكلٍ أسهل وأسرع منّا نحن، واعتمدناها وحدها معيار الذَّكاء الذي صرنا نقيس به قدرات أطفالنا العقلية، فبكلِّ بساطةٍ يمكنهم أن يحلُّوا لنا أكبر مشكلةٍ تعترضنا أثناء استخدامنا لتلك الأجهزة ( الذَّكية )، بل وغدونا نسارع لإحضار كلِّ ما هو متطوِّرٌ أكثر، ونضعه بين أيديهم، مطمئنين لوجودهم أمامنا ومعنا في البيت، نتندّر بأنهم لا يثيرون الفوضى والشَّغب من حولنا، دون أن ندرك أنَّنا نغلِّفهم بغلافٍ واحدٍ ونمنع عنهم متعة تجربة الإحساس بالأشياء الأخرى التي من الضَّروري جداً لهم أن يعيشوها، ولا أن نعي أنَّ أبناءنا الذين يمثلون أمامنا بأجسادهم الغضّة الطريّة هم أبعد ما يكونون عنّا وأبعد ما نكون عنهم، فلم يعد عالم الطُّفولة بألعابه واهتماماته واكتشافاته وألوانه يعني لهم شيئاً البتّة، فهم في عالمٍ آخر مختلفٍ كلياً، لا يعيرون الحياة الاجتماعية أيَّ اهتمام، لأنَّهم لا يعرفون عنها ومنها إلاّ اسمها وفي أفضل الأحوال ما يعيشونه في العوالم الافتراضية التي تجعلهم يعيشون في مجتمعٍ وهميٍّ متكاملٍ، فإن حدث وابتعدوا بعض الشَّيء عن أجهزتهم صغيرة الحجم تلك، نجدهم يغضبون ويستشرسون ويستشيطون غضباً، كيف ضاعت منهم ثوانٍ معدوداتٍ في اللّحاق بأقرانهم.

ولأننا اعتدنا هدوءهم، ولأننا منشغلين عنهم بتأمين ظروف حياتية تليق بـ(وعيهم العظيم) وقدراتهم وإمكانياتهم، نركض لاهثين لتعويض ما فاتهم بأن نقدّم لهم الأكثر تطوراً، فنفاجأ بهم وقد كبروا دون علمٍ منّا، وقد أمسوا غرباء عنّا، لا يعيروننا ولا يعيرون أي مجالٍ آخر في الحياة أي اهتمام!

فهل نلقي اللَّوم على أبناء لم يعرفوا متعة الحياة الاجتماعية واللَّعب الجماعي، أو الاتساخ بالطين، أو الأسرار البسيطة، أو نكهة التلفّظ بألفاظٍ لم يسبق لهم أن سمعوها، ولا ألوان قوس قزح، ونحن من ظننّاهم أذكى من أقرانهم وأكثر فطنةً؟!

من حقِّنا كآباء وأمهات أن نتفاخر بذكاء أطفالنا، لكن علينا أن نساعدهم ليختبروا هذا الذَّكاء في مجالاتٍ متنوِّعةٍ ومتعدِّدةٍ كالدِّراسية والاجتماعية والشُّعورية الحسيَّة، بالتَّوازي مع المجالات التِّقنية والتُّكنولوجية التي تساهم بشكلٍ أسرع من غيرها في تنمية مهاراتٍ محدَّدة، لكنَّها حتماً لا يمكنها أن تحلَّ محلَّ باقي أوجه الحياة، وإلاّ خرجنا بأطفالٍ أشبه بالمعاقين!

هلّا تركنا كلَّ ما بأيدينا قليلاً من الوقت لنلعب معهم، نحادثهم ونتقرَّب منهم، فنتعلَّم منهم مثلما نريدهم أن يتعلَّموا منَّا؟ ولنصل معهم إلى طريقٍ تتشعَّب فيه المجالات، فنكسبهم مهارة معرفة الوقت المناسب لكلِّ مجالس، وكيفية عيشه بكلِّ تجلياته؟؟

أظنُّ أنَّ الأمر ضروريٌّ جداً، وأن صحة أبنائنا النفسية والعقلية والاجتماعية لا تقلُّ أهميةً عن الاعتناء بهم جسدياً أو تكنولوجياً، بل إنَّها في بعض الأحيان تغدو أهم بكثير.

فلنحاول اليوم، قبل أن نبكي غداً نادمين!!

العدد 1104 - 24/4/2024