طلاقة الأطفال مع التقنيات.. أسبابها وتجليّاتها

إيمان أحمد ونوس:

يرى البعض أن تعامل الأطفال بطلاقة مع التقنيات الحديثة ينمُّ عن ذكاء وفطنة لم يعرفها أطفال الأجيال السابقة.. فهل مردُّ هذا للذكاء فعلاً، أم أن له علاقة بأساليب التربية التي خرجت من إطار سطوة عموم الكبار واقتصرت فقط على الأبوين، أم لأن التقنيات المُتاحة هي التي فرضت حضورها الطاغي على الصغار مثلما فرضته على الكبار الذين ما زال بعضهم يعتبر نفسه أُميّاً فيها إلى حدٍّ ما؟!

هي تساؤلات تُطرح ما بين حين وآخر عند التطرّق إلى موضوع علاقة الأطفال بالتقنيات الحديثة، وهي باتت جليّة لا يُنكرها أحد، مثلما لا يمكن إنكار آثارها السلبية والإيجابية معاً.

من المؤكّد أن تطور الحياة قد فرض على الجميع أنماطاً مختلفة من العلاقات الاجتماعية والأسرية، فبات تأثير تلك العلاقات في حدوده الدنيا، خاصة بالنسبة لأنماط التربية وقيمها التي اقتصرت اليوم، في كثير من الأسر، على الأبوين فقط، بما يحملانه من ثقافة ووعي يختلف عمّا يحمله عموم الكبار في الأسرة والحي، الذين كان لهم سابقاً الحق كما الأبوين في الإشراف على تربية الأبناء عموماً، ما قاد في الغالب وبسبب الخوف والرهبة إلى اغتيال خيال الطفل والذكاء الذي يُفضي إليه ذلك الخيال. لقد عمل آباء اليوم، عموماً، على إخراج أنفسهم وأبنائهم من شرنقة السُلطات المُتعدّدة لأولئك الكبار الذين يحملون قيماً ومفاهيم لم تعد تتوافق والتطورات الحاصلة، لكنها تُقيّد حريتهم وتطلعاتهم ورؤاهم وتُحاصرها حصاراً لا يدع مجالاً لخروج الأبناء من كل تلك الشرانق والأسلاك القيمية، بحكم المكانة التي يحتلونها والسطوة الممنوحة لهم بفعل القيم الاجتماعية والأسرية السائدة.

إن غالبية آباء اليوم لا يسمحون لأحد بالتدخّل في تربية الأبناء وتقرير مساراتهم، حتى هم أنفسهم باتوا أكثر مرونة في التعامل مع أبنائهم حين منحهم معارف الحياة وقيمها، مثلما تركوا لهم حرية الاختيار التي كانت ممنوعة سابقاً وعلى مختلف المستويات بما لا يتعارض مع هيبة الأبوين وتدخّلهم حين يستلزم الأمر ذلك، وهذا بالطبع قد منح شخصية الأبناء استقلالية أفسحت المجال لتطوّر وعيهم وتفكيرهم، فعزّز خاصيّة الذكاء التي يتمتّع بها عموم الأطفال، ما دفعهم للتّحليق في فضاءات المعرفة والحياة بطلاقة وحيوية، أدخلتهم بلا وجل مسالك وطرائق تعلّم تقنيات العصر المتطورة يوماً بعد آخر وامتلاك مهاراتها بشكل لافت كان ولا يزال عصيّاً على غالبية الكبار، الذين رفض بعضهم التعامل مع تلك التقنيات لجهله بها، إضافة إلى الخوف منها وصعوبة امتلاك بعض مهاراتها، ربما بفعل تقدّم العمر وخسارة مرونة التفاعل والتعاطي معها، وهذا ما جعل البعض منهم يرى نفسه أُمّيّاً في هذا المجال حتى لو كان يحمل أعلى الشهادات العلمية، لاسيما حين يرى المرونة والطلاقة التي يتعامل بها أطفال اليوم مع تلك التقنيات وهم بأعمار غضّة.

لا شكّ أن تغيير أنماط التربية سواء في الأسرة أو المدرسة التي خضعت هي الأخرى لأنماط تربوية وتعليمية اختلفت عمّا كان سائداً، من خلال تطوير المناهج وأساليب ووسائل التعليم (التي لم تصل بعد إلى المستوى المطلوب) هي من جعلت المجال رحباً أمام نمو خيال الطفل وتطوّره نحو مستويات مكّنته حقيقة من امتلاك مهارات لم يعهدها أسلافه من أطفال كانوا وإلى زمن ليس بالبعيد محكومين بمناهج وطرائق تقليدية قائمة على التلقين والحفظ بدل تنمية المهارات، وذلك من خلال التعليم التفاعلي الذي نشهده اليوم ولو بحدوده الدنيا، وهذا ما ترك انطباعاً عاماً عند الجميع بأن أطفال اليوم أكثر ذكاءً وفطنة من أطفال الماضي، ولعلّ في هذا الانطباع ظلماً وإجحافاً كَبيرَيْن بحق أبنائنا أطفال ذلك الماضي الذي لم تصل إليه تقنيات الحاضر المعاصر اليوم، ولم يسمح هو الآخر(الماضي) بزعزعة عروش التربية التقليدية التي قيّدت خيال وذكاء الأطفال، فخنقت الإبداع قبل ولادته لأنه ليس هناك من طفل غبي إلاّ في حالات مرضية نادرة، وإنما التربية بأساليبها وتوجّهاتها هي من تجعله ذكيّاً أو غبيّاً، وبالتالي نحن المسؤولون عن هذا وذاك، إضافة إلى أنه لا يُمكننا تجاهل أو نكران دور التكنولوجيا الحديثة وتقنياتها المُتعدّدة والمتنوّعة التي فرضت حضورها الطاغي على الكبار مثلما فرضته على الصغار حتى صارت جزءاً لا يتجزأ من ضروريات الحياة ولا يمكن الاستغناء عنها. وهنا وجد الأطفال أنفسهم وبلا عناء في أحضان تلك التقنيات، فتعاملوا معها بما فرضه فضولهم الطفولي وخاصيّة حبّ الاكتشاف والاستكشاف، بمرونة لافتة ألبستهم ثوب النبوغ والابداع الذي يُغذيه ذكاء متميّز، بينما يعود الفضل في ذلك وكما ذكرنا آنفاً إلى الحرية الممنوحة من التربية الأبوية المُتحرّرة من سطوة كبار القوم، وكذلك التغيير الحاصل في أساسيات وأُسُس المناهج التعليمية التي بدأت تعمل على مبدأ التعليم التفاعلي إلى حدٍّ ما، وهذا بالتأكيد ما يحتاجه خيال الطفل وذكاؤه الفطري كي ينمو ويُبدع بطلاقة ومرونة لا يمتلكها الكبار.

العدد 1107 - 22/5/2024