من عظمة تلك الأيام

عباس حيروقة:

من توتول إلى ماري قطعناها على طوافةٍ ولأيام طوال بحسنها وجمال المكان وأهل المكان.. على طوافة من حنين بدأنا الرحيل فكنا نغني ونمعن.. مأخوذين بنورانية المشهود فيورثنا الرهبة والدهشة والشعر.. هذه المكونات الكلية لهذا الوجود تضعنا بحالات تأمل، التأمل الذي كان له الحضور الطويل، التأمل الذي قاد ويقود إلى المكاشفة ورفع الحجب عن نورانية ذاكَ،لتدور الذوات في فلكِ الحقيقة حين بنور الفراتِ نفور

من توتول إلى ماري مضينا.. وكانت عتمة المساءات مع مياه الفرات وقمر الفرات ونسيم الفرات.. وتلك السماء الرهيبة وهول جمال الحوايج تشكل لوحة كونية تتحوى في جزئياتها قسمات عالم آخر ليس دنيوياً بل عالماً مرسومةً ملامحه في كتب مقدسة وفي خيالات القديسين، اللوحة التي أبعدتنا عن عالم ممعن في الخراب ليس غير، اللوحة التي نسجت حولنا الغلاف الذي يصنع منّا آلهة ذاك الزمان.

تمايز القصائد كتمايز شعور المرء وهو يتأمل الفرات من وسط الفرات وفي كل المواقيت وخصوصاً أبهاها، تمايزه عن شعوره وهو يتأمل الفرات من فوق جسر أو من على رصيف أو حتى وهو يتوسد الضفة، فالشعور الأول مفعم بنور قادم من أزمنة القديسين يعرش ويشرش فوق رؤاه.. شعور المرء مختلف وهو يعوم على طوافة تهدهدها أمواج أُختصّت بغسيل الأقمار، تهدهدها كأم حنون تطلق أبهى المواويل عند الغروب وتعلن تحليق أسراب الضفاف.. شعور مختلف وأنت تتوسد الماء تجاه الماء، فتتماه معه كنبي ألف الألوهة والوحي والكتاب.

رحلة نهرية أنقذنا بها ذاتَنا المطلة على سيل من المياه الآسنة.. خلصنا بها أرواحنا من الوهن، وحررناها من الاكتئاب المكدّس فوق جباهنا جرّاء الانهيارات والانهدامات الأخلاقية التي دكت البنى الاجتماعية.. رحلة علقتنا غمامات فوق سلسبيل، ووجوهنا مشدودة نحو شمس تستعد لتزفّ المكان صلصالاً والنهر روحاً نفخها فيه الإله.

أنقذنا ذاتنا بهذا الكم الهائل من الجمال، من الشعر الذي رأى فيه أرسطو «يطهر الإنسان من القيم الرديئة».. رحلة نهرية فتحت العديد من الأبواب الموصدة في دواخلنا، فأيقظت فينا الكثير، وأحيت فينا الكثير، ودربتنا على اختزان وارتياد بواطن كل المواضع الماتعة.. إنها الرحلة النهرية من توتول إلى ماري، والتي درّبتنا طويلاً طويلا على احتضان والتقاط كل الأماكن والزوايا التي مثّلت وتمثل ما هو جميل، الجمال الذي اكتنزناه طويلا في قلوبنا وخيالاتنا وذهنيتنا..دربتنا على تمارين جد هامة لنعمّر طويلا فنحن بين الخضرة والمياه الجارية والوجه الحسن

كل هذا قادنا إلى التأمل الذي وصفه أرسطو بأنه أسمى أشكال النشاط العقلي..

تأمل الأمداء والأنداء يشعل فتيلاً من الخيال والتخييل، فنعلن القصائد طيوراً خضراء وامتداداتٍ من ظلال قمر هدهدته المياه على وجهها.. نعلن القصائد شموعاً كبيرةً تحركها تراتيل الدهشة لنساء تلفعن بسواد الفقد والغربة في مساءاتٍ أتعبها الغياب فباتت تصفق للقناديل الممعنة بالحضور.

رحلة كانت باتجاه الجمال الذي (سينقذ العالم) كما قال يوماً ديستويفسكي.

من توتول إلى ماري فتحت بوابات لعوالم مرسومة بألوان وإيقاع الزمن البدئي، زمن الهيولى والتشكّل، زمن الماء، المتكور في رحمه كل شيء حيّ.

العدد 1105 - 01/5/2024