الوسطية.. ظاهرة إنسانية لها جذورها

يونس صالح:

الوسطية ظاهرة إنسانية لها جذورها في التكوين الأساسي للإنسان، ولها مظاهر عدة في الطبيعة، ولها أيضاً وظائفها ومنافعها، وفضائلها، في كثير من ميادين النشاط الإنساني، ولكن، مع كلّ ذلك، لها حدود.

تشير الوسطية مباشرة إلى معنى الاعتدال، ولا يمكن، بأي حال من الأحوال، أن يُفهم منها معنى (الحياد). وبصفة عامة فإن المعنى المكاني للتوسط يشير إلى الجانب الكمّي من الأمور، بينما المعنى التقويمي له يشير إلى الجانب الكيفي منها، وهو المتضمن في التعبير المعروف (الوسط العدل).

إن التوسط لا يعني الحياد، كما جرى التأكيد عليه، لأنك لابد أن تنحاز إلى ما هو حقّ وصواب، وأمام هذا المعيار، فإنك لن تستطيع أن تكون محايداً.. كذلك فإنه لا يعني القيام بعملية ما، أو إنشاء ترتيب ما، بطريقة لصق المتنافرات، بزعم الأخذ من اليمين ومن اليسار، سواء بسواء.. فليس التوسط والوسطية أخذاً بطرف من كل شيء، بغير تمييز.. إنما هو دائماً أخذ بالمصالح وتركيب للأمر المعيّن على النحو المتفق مع طبيعته، ولكن في حدود الكافي والمناسب، وبلا إفراط بالزيادة ولا تفريط بالنقص.

إن التوسط والوسطية هما الضدّ التام لاتجاه المغالاة، إنْ إيجاباً أو سلباً، وكذلك لاتجاه السطحية الذي شعاره (من كل بستان زهرة)، وهما أيضاً ضد كل من الحماس المفرق والعجز المفوّت للفرص.

والآن بعد أن تطرّقت إلى الأصل اللغوي للوسطية، ولمعنى مفهومها، سأتطرق إلى استجلاء الأسس التي يقوم عليها هذا الاتجاه، والموجهات الأولى التي توجه الذهن والسلوك نحوه من جانب، وعند التكوين الإنساني الأساسي من جانب آخر.

إن الطبيعة تتكون من أشياء وعمليات وعلاقات، وجميعها يحكمها مبدأ التناسب، فتركيب أي شيء ينبغي أن يكون متوازناً في ذاته، ومناسباً لأغراضه ووظيفته، وعمليات الطبيعة تبدأ دائماً من الأدنى إلى الأعلى بحسب منحنى ما أو خط سير معين، بحيث تكون نسبة هذا إلى ذاك مساوية على التقريب للوسط بينهما. وأما العلاقات فإنها النموذج التجريدي للتناسب والتوازن، وهي تظهر على أخلص ما تكون في القوانين الطبيعية، وكل هذه المعاني تؤدي بالضرورة إلى معنى الاعتدال الذي هو قلب التوسط.

إن مبدأ التوسط واتجاه الوسطية يبدو لنا، إذاً، وكأنه قانون عام من قوانين الطبيعة والإنسان، ويمكننا انطلاقاً منه أن نفسر بعض الظواهر الإنسانية في الحضارة والحرب وغيرهما من غير شك، إلا أنني سأشير إلى هذه الظواهر المعنية التالية لأنها تحيط بنا على نحو أو آخر.

فالحضارة، كل حضارة من حضارات الإنسان، وهي كثيرة، يكون لها بداية ووسط ونهاية، ووسط كل حضارة هو قمة قوتها وازدهارها، والأمثلة على ذلك كثيرة. ولنأت إلى الحروب والعدوان، فنتبين فيهما أيضاً أن الإفراط والمغالاة هما السبيلان المؤكدان نحو الفشل النهائي، والأمثلة على ذلك كثيرة أيضاً.

ومع ذلك، فإن الاستثناء ملازم لأوضاع الحياة عامة، ولأوضاع الإنسان بخاصة، وعليه فإن هناك أيضاً حدوداً لاتجاه الوسطية والتوسط، حيث توجد ميادين لا يحمد فيها اتخاذ هذا الاتجاه دليلاً للسلوك إن تفكيراً أو قولاً أو عملاً، فلا توسط في شأن الحقيقة ولا توسط في الدفاع عن الذات والذود عن الكرامة، ولا توسط في العبقرية ولا حتى في الحب العميق. وحتى في المواقف التي يحسن فيها التوسط والوسطية، فإن معيار ذلك ليس معياراً كميّاً، فقد يظهر التوسط هنا تطرّفاً بالإفراط أو التفريط هناك، ولذلك فإن لكل موقف أحكامه المناسبة، وكذا لكل ميدان، وهناك من الميادين ما لا يسمح بالوسطية أصلاً، ثم هناك خطر دائم أمام تطبيق الوسطية: ذلك أن التوسط قد يؤدي إلى السطحية، ولذلك وجب أن نضم إلى اتجاه الوسطية البحث عن الإتقان، الذي شعاره إعطاء كل ذي حق حقه، وهو ما يعود على كل حال إلى معنى العدل والعدالة.

 

العدد 1105 - 01/5/2024