أطفالنا.. بين رحى المطحنة

إيناس ونوس:

طفلةٌ لم تتجاوز السَّادسة من العمر تجوب الشَّوارع بثيابها الرَّثَّة، تقوم باحتضان كلِّ عابرٍ في الطَّريق تتوسَّل منه بعضاً من النُّقود، فإن لم يلبِّ طلبها قامت باحتضانه وملامسته بطريقةٍ مثيرةٍ للغرابة.. وللخوف بآنٍ معاً، يقف أخوها الذي لا يكبرها بكثيرٍ جانباً متابعاً المشهد ليكون مرشدها ودليلها.

طفلٌ في العاشرة من عمره يسير مجادلاً والدته برغبته في التَّسجيل بأحد النَّوادي الصَّيفية كحال رفاقه الآخرين، ممتعضاً من عدم قدرة أهله على تسجيله لضيق حالتهم المادية.

ثلَّةٌ من الأطفال ممَّن لم يتجاوزوا المرحلة الابتدائية يرقصون نشوةً بحصولهم على نتائج العام الدِّراسي وكأنَّهم عصافير امتلكت السَّماء برحابتها بين جوانحها الصَّغيرة، يتباهى كلٌّ منهم بما سوف يقوم به خلال عطلة الصَّيف التي ابتدأت للتَّوّ.

مجموعةٌ من الفتية والفتيات يملؤون الشَّوارع ضحكاً واستهزاءً بكلِّ من يمرُّ أمامهم كبيراً كان أم صغيراً، يتلفَّظون بألفاظٍ تندى لها الجبين، مفتعلين بعض الحركات والنَّظرات والإيماءات اللَّاأخلاقية التي لا يتخيَّل لك أنها قد تصدر من أشخاصٍ هم في حقيقة الأمر بعمر المراهقة إنَّما مظهرهم الخارجيُّ ولباسهم وطريقة تصرُّفاتهم تشعرك وكأنَّهم بعمر العشرينات وما فوق.

هذه بعض مشاهداتٍ يوميةٍ لنماذج من أطفالنا الذين فقدوا وبكلِّ أسفٍ ومرارةٍ كلَّ ما له علاقةٌ بالطُّفولة وحقوقها، متقهقرين بين تعليمٍ خاضعٍ لارتجال ومزاجية القائمين على المؤسَّسات التَّعليمية والتَّربوية، متأرجحٍ بين قرارٍ يصدر بالأمس، فيلغى اليوم، ولا غاية مرجوَّة منه إلا إفساد البنية التَّعليمية التَّحتية التي من شأنها لو أنها سارت في مسارها الصَّحيح أن تؤسِّس لجيلٍ من واجبه النُّهوض بالبلاد عامةً بعد كلِّ هذا الخراب الذي نحياه على مختلف الصُّعد، فهم المستقبل وهم الأمل! وبين سماسرةٍ لم يعد يُشبع جشعهم ونهمهم شيئاً، يحتكرون كلَّ وسائل التَّرفيه التي من المفترض أن تقدَّم إن لم يكن بالمجَّان فبأقلِّ التَّكاليف إمكانيةً، كي يتمكَّن جميع النَّاس من تطوير مهارات أبنائهم واكتشاف مواهبهم وميولهم في وقت مبكِّرٍ قبل أن تذروها رياح الحياة دونما جدوى، وبين أساليب تربويةٍ يتمثَّلها العديد من المربِّين والأهل على أنَّها نموذج التَّربية الحديثة التي تقوم على إعطاء الحرية المطلقة للطِّفل دون ضوابطَ أو رادع سواء أخلاقي أو اجتماعي أو أسري، معتمدةً على أجهزةٍ حديثةٍ تسلبهم ألبابهم دونما رقيبٍ إلى أماكن ليست لهم، ليقوموا بدورهم بتحويلها من واقعٍ افتراضيٍّ إلى آخر ملموسٍ فيه من الأذية النَّفسية والجسدية ما فيه، وما نشاهده ونعايشه بكثرة.

فضلاً عن أولئك الأطفال الذين لم يعرفوا من حياتهم مذ تفتَّحت عيونهم على هذه الأرض إلَّا على العمل بغية الحصول على ما يسدُّ رمقهم، فهم إمَّا أنَّهم استفاقوا فوجدوا أنفسهم وحيدين لا سند لهم وما عليهم إلَّا أن يمنعوا الذِّئاب من افتراسهم، أو أنَّهم فجأةً أمسوا معيلين لعائلاتهم في ظلِّ واقعٍ معيشيٍّ أشبه بالمستحيل فيه أن يتكفَّل الأب أو الأمُّ وحدهما أو معاً بتسديد تكاليفه الباهظة.. وهؤلاء شريحةٌ ليست بالقليلة في مجتمعنا اليوم، منهم من يبحث عن ذاك العمل الذي يحفظ له ما يدعى (إنسانيته)، ومنهم من غدا وسيلةً بيد ضعاف النُّفوس ليستخدموهم في أعمالَ قذرةٍ كالدَّعارة أو التَّسول أو السَّرقة أو تجارة الأعضاء أو غير ذلك.

في عيد الطِّفل العالمي، بات من الضَّرورة الملحَّة أن نقول لهؤلاء جميعاً، اعذرونا.. فنحن لم نحمِ طفولتكم كما يجب، أن نتوسَّل إليهم أن يسامحونا لأنَّنا، وبغير إرادتنا، لم نكن على قدرٍ كافٍ من المسؤولية، فقمنا برميهم بين حجرَيْ رحى المطحنة لتطحنهم كما تطحننا مع كلِّ شهيقٍ وزفير.

في عيد الطِّفل العالمي اليوم، نصرخ بوجه آلة الحرب والدَّمار والموت اليومي الذي لم ينتهِ حتى بعد توقُّف القصف والقتل: أن كفى اغتيالاً ووأداً لأطفالنا، الذين لم تخزِّن ذاكرتهم من سنواتهم الغضَّة إلَّا المرار والأسى والعدوانية، ومبدأ (أنا ومن بعدي الطُّوفان، حتَّى لو أخذ بطريقه أهلي!).

العدد 1104 - 24/4/2024