استمرارنا بالإنجاب سيجعلنا في خبر كان!

إيمان أحمد ونوس:

معلومٌ تماماً أن حجم الأسرة يؤثّر على أفرادها بتناسبٍ عكسي مع مواردها وإمكاناتها المتاحة في هذا المجال، فكلما ازداد عدد أفرادها، نقصت حصّة الفرد من هذه الموارد (وهذا ينطبق على حال الدولة)، إضافة إلى أنها تخلق مشاكل عديدة أخرى تُعتبر عاملاً أساسياً من عوامل تخلّف المجتمع، كالتسرّب المدرسي، وتدنّي مستوى التحصيل العلمي، والفقر والبطالة والتشرّد، وهذه كلها عوامل تدفع بالأفراد إلى ممارسة سلوكيات لا تتفق مع تطور الأسرة والمجتمع، ولنا فيما نراه يومياً في شوارع مُدننا كافة خير مثال، كظاهرة أطفال الشوارع المُشرّدين والمتسوّلين والذين ينامون في العراء دون أن يسأل أحد عنهم ولا عمّا سينتج عن هذا الوضع من أمراض وآفات نفسية واجتماعية واقتصادية خطيرة، وهذه ظواهر تشي ليس فقط بانعدام العدالة الاجتماعية، وإنما تتعداها إلى انعدام الإحساس بالمسؤولية تجاه هؤلاء الأطفال، سواء من الأهل أو الجهات الرسمية الحكومية المعنية وغيرها من منظمات مدنية وخيرية وحقوقية.

لا شكّ أن الوعي المجتمعي يؤثّر تأثيراً كبيراً على مسألة الإنجاب والصحة الإنجابية، وهذا يقودنا إلى أن البيئات التي تفتقر إلى هذا الوعي مدعومة بقيم دينية مُتجذّرة في اللاوعي هي الأكثر إنجاباً، من منطلق أن الطفل يأتي إلى الدنيا ورزقه معه، إضافة إلى عدم القناعة بمسألة تنظيم النسل أو تحديده باعتبارها اعتراضاً من العبد على مشيئة الخالق، وهذا هو بالتأكيد الدافع الأساس وراء ارتفاع نسب الإنجاب بشكل لافت لا يتوافق مع الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي فرضتها الحرب، وكانت العديد من الدراسات قد أكّدت هذا الارتفاع في نسب الإنجاب بين اللاجئين في المخيمات داخل البلاد وخارجها خلال الحرب، ما عرقل الكثير من الجهود الساعية إلى التخفيف من حدّة الأزمات المعيشية والصحية والتعليمية عند تلك الأُسر وأطفالهم، سواء في الداخل أو الخارج، وبالتالي أصبح لدينا جيلٌ بأكمله فاقد لأبسط مقوّمات العيش الكريم بأبسط تجلّياته، إضافة إلى تفشّي الأمية مترافقة مع تفشي قيم وأخلاقيات مناهضة للقيم الإنسانية والحقوقية الأساسية، قيم لا تولي العلم والعمل الشريف أهمية تُذكر إلاّ فيما ندر، فالمهم هو البقاء على قيد الحياة بأيّة وسيلة كانت، في ظلّ انعدام مختلف مقوّمات العيش الكريم لفئات واسعة من المجتمع، بسبب تبعات الحرب الظالمة التي دفعت تلك الفئات ضرائبها الأكبر من أمانها واستقرارها ومستقبل أبنائها الذي بات رهينة لمشيئة قوى لم تلتفت يوماً لحقوق الإنسان بقدر التفاتها لمصالحها ومكاسبها التي رفعت الحرب من أرصدتها على حساب جوع الملايين من البشر وفقرهم وتشرّدهم، دون رأفة أو وازع من ضمير.

إن الصمت عن هذا الواقع أو تجاهله لا يمكنه حلّ المشاكل الناجمة عنه حاضراً ومستقبلاً، باعتبار هذه الأخطار ستشمل الجميع حكومة وشعباً، وستُلحق بهم أفظع الأضرار التي ستُعيق ولا شكّ أيّة بادرة تنمية للفرد والمجتمع والدولة، إن لم تلقَ المعالجة المطلوبة من كل الجهات والهيئات المعنية حكومية كانت أم منظمات مدنية. وهنا لا بدّ أن نستذكر ما هدفت إليه الخطة الخمسية العاشرة (2006- 2010) التي اعتُبرت حينها نقلة نوعية في الخطط الحكومية قبل الحرب، بما هدفت إليه من تحقيق التوازن بين متطلبات السكان المتنامية ومقدرة التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وقد رمت إلى تحقيق الأهداف التالية (لكنها لم تتحقّق، بل كانت أحد أهم الأسباب الكامنة وراء اندلاع الاحتجاجات والحرب العبثية): ‏

– تطوير القدرات الوطنية في مجال تقنيات الإدماج والمتابعة والتقويم لقضايا السكان، وتطوير وتعزيز قاعدة البيانات حول ترابطات قضايا السكان والصحة الإنجابية والنوع الاجتماعي مع بقية الغايات الإنمائية للألفية. ‏

–  تمكين ومشاركة الشباب والمراهقين وتطوير خدمات الطفولة السليمة. ‏

–  إيلاء أهمية خاصة للطبقات والمناطق الأكثر احتياجاً. ‏

–  التكاملية بما فيها مؤسسات القطاع العام والخاص والجمعيات الأهلية والمنظمات غير الحكومية. ‏

–  تأمين دعم المؤسسات الحكومية وغير الحكومية والهيئات التي تعمل في مجال الدعوة لقضايا السكان واستنهاض وسائل الإعلام المعنية بقضايا السكان والصحة الإنجابية والنوع الاجتماعي.. وتعزيز دور المؤسسات الدينية والثقافية والتعليمية لدعم المجتمع المحلي. ‏

–  وضع نظم متوازنة إقليمياً ومحلياً تتوافق مع أغراض التنمية المستدامة. ‏

لو تمعّنا جيداً بهذه الأهداف لوجدنا أنها ذات مردودية عالية، تُحاصر المشكلة من كل جوانبها تقريباً لو تمّ تطبيقها، ولكن على أرض الواقع بقيت الجهود المبذولة حينذاك هزيلة جداً لا تتناسب وحجم المشكلة، لأسباب عديدة تركت هذه الأهداف في مهبِّ ريح اللامبالاة الحكومية التي ما زالت تتعامل مع الكثير من الملفات الساخنة بسلبية تُضيّع معها كل جهود الجهات الأخرى التي تُعنى بالقضية المطروحة، في الوقت الذي يجب عليها اليوم وأكثر من أيّ وقت مضى اتخاذ إجراءات كمية ونوعية تؤثّر في تحويل تحديات المسألة السكانية من مخاطر إلى فرص تنموية تسهم في معالجة ازدياد ظواهر الفقر والبطالة والهجرة والسكن العشوائي، بما يؤدي إلى ارتفاع معدّل دخل الفرد، وأيضاً التوزيع العادل للدخل بين المناطق، بما يسهم على المدى الطويل في إحداث تغيّرات اجتماعية واقتصادية تؤدي إلى انخفاض معدلات الخصوبة مقابل ارتفاع معدلات التنمية المطلوبة للفرد والمجتمع والدولة، وإلاّ سنكون جميعاً في خبر كان!  ‏

العدد 1107 - 22/5/2024